عماد موسى

لقّحوا أطفالكم

24 تشرين الأول 2022

02 : 00

لا يزال صراخ ليلى عالقاً في ذاكرتي السمعية. صراخ هستيري. ليلى كانت في صفي. «غراند جاردن» الفرع الأدبي. طفلة مكتنزة. شقراء. عينان بلون زيت الزيتون. كل الأشرفية سمعت صراخ ليلى في مناسبة أليمة تعود إلى زمن سحيق: حملة تطعيم. يومها طلب الممرض، المرسل إلى مدرستي الكريهة، مساعدة من إحدى المدرّسات للسيطرة على ليلى التي تلقت الطعم غصباً...عن فخذها.

تطوّعتُ في ذاك اليوم البعيد لكفكفة دموعها الهاطلة من عينين اختلط فيهما اللون الأحمر بالزيتي. وظللت لأعوام، كلّما نظرت إلى الندبة الأشبه بعشرة قروش على فخذي الأيمن يذهب تفكيري إلى ليلى، وعلمتُ لاحقاً، من مصادر مطّلعة، أن المراهقة الشقراء، وقد زاد وزنها عن المعدل التراكمي لمن هنّ في سنّها، حُرمت من ارتداء تنانير الـ «ميني جوب» والـ»هوت شورت» المسببة لتسارع دقات القلب عند الذكور من سن الثالثة عشرة إلى سن الثالثة والتسعين.

كم سمعت في طفولتي تحذيرات من «شلل الأطفال» و»الشاهوق» و»أبو كعيب» و»جدرة المي» و»الكوليرا» ولم أكترث. وكم سمعت جارتنا، في جولات تعنيف زوجها «السبقجي»، تختم الحفل الأسبوعي بـ»حمى تطرقك». حمى الأقرب إلى الحماة. لم أهتم أيضاً للحمى المالطية لكن ما بث الرعب في قلبي، بعدما أتممت «طعوماتي» ذاك الصوت الإذاعي الصادح «لقّحوا أطفالكم لا ينفع الندم». وفي هذا الزمن الرديء، بات طعم شلل الأطفال «أولد فاشن» بوجود لقاحات ضد الـ «كوفيد 19» و«الكوليرا» التي طرقت بابنا من جديد.

صيف العام 1978 وفي فجر يوم من «حرب المائة يوم» المجيدة التي أشعلت الأشرفية وشلّعتها، لمحتُ من نافذة مفتوحة على زاروب هادئ يؤدي إلى مقابر مار متر، شاباً يحمل عبوة دهان موجهة صوب الأسفلت. ما إن غادر حتّى هرعت إلى المكان الذي وقف فيه لثوانٍ، وقرأتُ «لقّحوا أطفالكم ضد البعث السوري». إستبعد الأخ المناضل القيادة القطرية لحزب البعث العراقي. الحملة واضحة ضد آل الأسد. في ساعات ذاك النهار الحار إتضح لي أن الشعار ملأ شوارع الأشرفية. في المقابل لم أُخبر عن شعار مضاد في شوارع الغربية كـ»لقّحوا أطفالكم ضد الإنعزالية».

أمراض كثيرة تضرب شرائح من اللبنانيين اليوم، وتصيب دماغ النساء والرجال والشبيبة الناهضة بفايروس خطير: الخبل السياسي. وقد يتحوّل الخبلُ إلى وباء معدٍ مع بداية تشرين الثاني. ما يهمني في المسألة أن تكون ليلى، ذات العينين الزيتيتين، بمنأى عن الفايروس. ألف مرة طعم بالفخذ ولا تشوّه واحد بالعقل.


MISS 3