سليم جريصاتي

تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق

24 تشرين الأول 2022

14 : 30

دخلت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في مرحلة تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق نتيجة بدء ولاية مجلس النواب الجديد في 16 أيّار 2022 وذلك عملاً بالمادة 69 من الدستور التي تعتبر فقرتها (هـ) أنّ الحكومة تعتبر مستقيلة في هذه الحالة، وقد أعيد تكليف الرئيس ميقاتي بتاريخ 23 حزيران 2022 بتأليف حكومة جديدة.



ما هو المقصود "بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال"؟


اولا: وردت هذه العبارة في نص دستوري لاول مرة في لبنان في المادة 64 من دستور ما بعد الطائف، حيث نصت الفقرة "2" منها على ان الحكومة لا تمارس صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة "الا بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال". ان هذا النص يجب ان يقرأ ويفسّر في ضوء اكثر من مادة في الدستور بغية ان يأتي تفسيره منسجما مع احكام الدستور ومتماسكا:


1- المادة 16 من الدستور، التي نصّت على أن "تتولى السلطة المشترعة هيئة واحدة هي مجلس النواب"، وهي مادة لم تعدّل منذ 1927.

2- المادة 17 من الدستور، التي نصت على ان "تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء، وهو يتولاها وفقاً لاحكام هذا الدستور"، ما يعني العطف حتما الى تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق عندما تكون الحكومة مستقيلة او معتبرة مستقيلة او غير حائزة بعد على ثقة مجلس النواب.

3- المادة 65 من الدستور، التي تعيد النص في مقدمتها على ان "تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء"، والتي تشير صراحة في فقرتها "5" الى ما اسمته "المواضيع الاساسية" التي يحتاج اقرارها الى اكثرية موصوفة ومؤلفة على الاقل من ثلثي عدد اعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها، والتي تعمدت تعداد هذه المواضيع التي تعتبر اساسية بصورة حصرية، وعددها اربعة عشر موضوعا، ومنها تعديل الدستور واعلان حالة الطوارىء والحرب والسلم والاتفاقات والمعاهدات الدولية واقرار الموازنة العامة وتعيين موظفي الفئة الاولى او ما يعادلها وحلّ مجلس النواب واقرار قانون الانتخابات وقانون الجنسية واقالة الوزراء...

4- المادة 53 الفقرة "12" من الدستور، التي ناطت برئيس الجمهورية ان "يدعو مجلس الوزراء استثنائيا كلما رأى ذلك ضروريا بالاتفاق مع رئيس الحكومة"، وذلك ان دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد تعود الى رئيس مجلس الوزراء، الذي هو رئيس الحكومة، على ما ورد في المادة 64 من الدستور.

5- المادة 69 الفقرة "3" من الدستور، التي تنص على ان "عند استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة يصبح مجلس النواب حكما في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة".



ثانيا: هناك أكثر من رأي استشاري يمكن الركون اليه لتحديد مفهوم "تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق" الذي قصده المشرّع الدستوري عام 1990 في معرض التعديلات التي أدخلت على الدستور نتيجة إدراج بعض مندرجات وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) في مقدمة الدستور ومتنه، إلا أننا نكتفي بآراء ثلاث تحمل كلّ الدلالات:

1- الأول منهما صدر عن "هيئة التشريع والاستشارات" بتاريخ 18\4\2005 تحت الرقم 265\2005 في ظل الحكومة المعتبرة مستقيلة برئاسة نجيب ميقاتي بفعل بدء ولاية مجلس النواب، على ما هو الوضع الراهن، عن "مدى جواز انعقاد مجلس النواب في عقد استثنائي في ظل حكومة مستقيلة يكون موضوعه الاشتراع ومصير مرسوم فتح الدورة الاستثنائية المحصور موضوعه بانتخاب اللجان النيابية"، حيث ورد، بمضمون معبر وإن بشكل عارض، "ان المبدأ المتعارف عليه الذي يحكم تصريف الاعمال من قبل الحكومة المستقيلة، هو ذاك الذي يجد مصدره في القرار المبدئي الشهير الصادر عن مجلس شورى الدولة الفرنسي بتاريخ 4\4\1952Syndicat régional des quotidiens d’Algérie والمنشور في مجموعةLes Grands Arrêts de la Jurisprudence Administrative, Dalloz 12ème éd. p.477.

والذي بمقتضاه لا مفر من وجود سلطة مناط بها تأمين استمرارية الحياة الوطنية وديمومتها بين تاريخ استقالة الحكومة وتاريخ تأليف الحكومة الجديدة، فتمسي الولاية الاستثنائية للحكومة المستقيلة او المعتبرة كذلك، مسندة فقط الى مرتكز تأمين مقتضيات الدولة الضرورية:

« Il est indispensable qu’il y ait une autorité chargée d’assurer la continuité de la vie nationale entre la démission du gouvernement et l’investiture de son successeur : les affaires courantes apparaissent ainsi, dit M. Delvolvé, « comme la zone limite de la compétence exceptionnelle d’un gouvernement dont le pouvoir ne repose plus sur aucun autre fondement que sur les nécessités de l’État ».

كان Delvolvé في حينه مفوضا للحكومة في مجلس الشورى الفرنسي، وقد وضع تعريفه اعلاه لتصريف الاعمال في مطالعته المقدمة الى المجلس.

أشار الرأي أعلاه الصادر عن "هيئة التشريع والاستشارات" الى ان هذا المبدأ العام الاجتهادي الفرنسي قد جرى تكريسه كتابة بنص دستوري في لبنان، هو المادة 69 من الدستور التي اعتبرت مجلس النواب منعقدا حكما في دورة استثنائية في الفترة الممتدة من استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة الى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة، حيث خلص الرأي الى ان مجلس النواب يبقى محتفظا بكامل صلاحياته للتشريع بمجرد انعقاده حكما وفقا لما سبق، "وذلك سّدا لاي فراغ".

بالفعل، اقر مجلس النواب قوانين هامة في ظلّ حكومات تصريف أعمال، ومنها على سبيل المثال حكومتا الرئيس نجيب ميقاتي المعتبرتين مستقيلتين وفي وضعنا الراهن، حيث تمّ إقرار قوانين مهمّة لعلّ أبرزها قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة لسنة 2022.

2- اما الرأي الثاني، فقد صدر عن الهيئة ذاتها بتاريخ 24/9/2009 بمعرض طلب وزير العدل في حينه الرأي في مدى قانونية اصداره في فترة تصريف الاعمال قرارا يلغي قرارا اتخذه سابقا لأسباب مسلكية، فاتى الرأي بجواز اتخاذ الوزير تدبيره هذا كونه يدخل في نطاق الاعمال الجارية والعادية لوزراء حكومة تصريف الاعمال. ذكّر الرأي الجديد بالرأي السابق للهيئة المشار اليه اعلاه وبقرار مجلس الشورى اللبناني الصادر بتاريخ 17\12\1969 (راشد \الدولة) الذي حدد لاول مرة مفهوم المجلس لتصريف الاعمال مستوحيا اجتهاد مجلس الشورى الفرنسي.

3- أما الرأي الثالث فقد صدر عن الهيئة ذاتها بتاريخ 17/2/2021 تحت الرقم 87/2021 بمعرض طلب وزير الخارجيّة والمغتربين في حينه، الرأي في إمكانيّة إصدار أيّ مرسوم تعديلي للمرسوم الرقم 6433 تاريخ 1/10/2011 المتعلّق بتحديد حدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة في ظلّ حكومة تصريف أعمال، فأتى الرأي بجواز ذلك في حال رأت حكومة التصريف ضرورة لتعديل هذا المرسوم ويستوجب عجلة ماسة باتخاذ قرار فوري بشأنه، وأنّه «ينبغي» على مجلس الوزراء أن يجتمع بهيئة تصريف أعمال وفقاً للمادة 64 من الدستور ليقرر توافر أو عدم توافر حالة الضرورة في المسألة الراهنة. هذا وكانت الهيئة، في رأيها المذكور، قد ميّزت بين الأعمال الجارية التي يمكن لحكومة تصريف الأعمال أن تقوم بها، والأعمال الهامة التي لا يجوز لحكومة مستقيلة أن تجريها إلا في حالة الضرورة الخاضعة لرقابة القاضي الإداري أو الدستوري، المؤخرة، والأنظمة الهامة التي لا يجوز في مطلق الأحوال لأيّ حكومة مستقيلة أن تضعها.



ثالثا: لا يقتصر استشراف مفهوم "تصريف الاعمال بالمعنى الضيق" على رأيين استشاريين فقط، بل ان ثمة قرارا اجتهاديا دستوريا يمكن ايضا الركون اليه لهذه الغاية، وهو القرار الصادر عن المجلس الدستوري تحت الرقم 1/2005 تاريخ 6/8/2005 والذي قضى المجلس بموجبه بابطال القانون الرقم 679/2005 المتعلق بتأجيل النظر بالمراجعــات امام المجلس الدستوري، ابطالا كليا لمخالفته احكام الدستور والمبادىء الدستورية المكرسة فيه او المعتمدة من ضمن الكتلة الدستورية. ورد في هذا القرار سبب ابطال مرده مخالفة القانون المذكور، والمطعون فيه من نواب عشر، المادة 19 من الدستور لجهة حق رئيس مجلس الوزراء بمراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين. جاء في قرار المجلس، تحت هذا السبب، ان "حق رئيس مجلس الوزراء المستقيل بالطعن بالقانون الذي يشارك بتوقيعه رئيس الدولة في مرسوم اصداره لا يدخل في المفهوم الضيق لتصريف الاعمال، لأنـه عمل انشائي بامتياز وغير اجرائي، طالما من شأنه ان يؤدي الى ابطال هذا النص التشريعي واحداث وضع قانوني مغاير بنتيجة هذا الابطال". انتهى المجلس تحت هذا السبب الى ان استبعاد رئيس مجلس الوزراء المستقيل، بالشكل الموصوف اعلاه، من دائرة المراجع التي يحق لها ان تمكّن المجلس الدستوري من ان يقبض على اختصاصه بمراقبة دستورية قانون مذيل بتوقيع رئيس مجلس الوزراء المستقيل، من شأنه ان يبطل هذا القانون لمخالفته المادة 19 من الدستور، سيما "ان مهلة الطعن بالقانون المذكور قد تنقضي قبل ان ينتقل حق الطعن الى الخلف".

يتبين مما سبق ان ثمة مقاربة اجراها المجلس الدستوري في قراره اعلاه للمعنى الضيق لتصريف الاعمال، قد يفهم منها عدم جواز التشريع في ظل حكومة مستقيلة او معتبرة مستقيلة او غير حائزة على ثقة مجلس النواب بعد، ذلك ان اي قانون يقره مجلس النواب في ظل حكومة تصريف اعمال معرّض للابطال في حال اتيح للمجلس الدستوري ان يراقب دستوريته، بحجّة انه غير دستوري لمخالفته نص المادة 19 من الدستور لجهة حجب حق رئيس حكومة تصريف الاعمال بمراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين. الأخطر في هذه المقاربة أنّه، في حال خلوّ سدّة الرئاسة، تنتفي كليّاً إمكانيّة التشريع بانتفاء مرجعيّة رئيس الجمهوريّة، القاسم اليمين الدستوريّة باحترام دستور الأمّة اللبنانيّة وقوانينها، للطعن بدستوريّة أيّ قانون. الا ان هذه الخلاصة لا تقع موقع الحسم في موضوع عدم جواز التشريع في ظل حكومة تصريف الاعمال، ذلك ان المجلس الدستوري ذاته في قراره اعلاه، وتحت السبب المذكور، اورد ثلاثة انواع من التحفظات:

- ذكر المجلس صراحة انه لا يعبّر، في ما يذهب اليه تحت سبب الابطال هذا، عن موقفه من اشكالية قيام السلطة المشترعة بالعمل التشريعي في ظل حكومة تصريف الاعمال في الدورة الاستثنائية الحكمية المنصوص عنها في البند "3" من المادة 69 من الدستور، او في دورة استثنائية جرى افتتاحها وفقا للمادة 33 من الدستور.

- اشار المجلس صراحة، تحت السبب اعلاه، الى اعتباره جدلا ان المعنى الضيق لتصريف الاعمال لا يحجب حق رئيس حكومة تصريف الاعمال من توقيع القانون تأمينا لسير العمل الاشتراعي وعدم تعطيله، عملا بمبدأ عدم جواز حدوث فراغ دستوري في سلطة دستورية مستقلة كالسلطة المشترعة، ومستلزمات هذا المبدأ.

- خلص المجلس صراحة، تحت السبب اعلاه، الى ان ما يحفّز موقفه من ابطال القانون المطعون فيه "ان مهلة الطعن... قد تنقضي قبل ان ينتقل حق الطعن الى الخلف" (والمقصود رئيس حكومة حازت على ثقة مجلس النواب)، ما يفيد ان المجلس الدستوري التفت الى حالة سقوط الحقوق العامة او الخاصة كما سيأتي بيانه، والتي قد تبرر اتخاذ حالة حكومة تصريف الاعمال او رئيسها او اي من اعضائها التدابير الآيلة الى تفادي تقادم هذه الحقوق (ومنها حق الطعن؟)، مع التأكيد على اعتبار وجود «الخلف» المتمكن ضروريّاً لاستمرار الحياة العامة بشكل دستوري محصّن وسليم.



رابعا: من العودة الى مطالعة Delvolvé التي استند اليها رأيا "هيئة التشريع والاستشارات"،، يتبين انها اوردت ثلاثة انواع من الاعمال التي قد تطرح امام الحكومة المستقيلة، وحددت سلطة هذه الحكومة المستقيلة او الوزراء المستقيلين بشأنها:

1-“Les affaires courantes par nature, c’est- à -dire la masse de décisions quotidiennes que les bureaux préparent et que le ministre se borne à signer après un contrôle sommaire”.

اي ما تعريبه: الاعمال العادية بطبيعتها، اي تلك الاعمال اليومية التي تعدها الدوائر التابعة للوزير والتي يكتفي الوزير عادة بتوقيعها لتسيير الامور اليومية.

2-« Les affaires importantes qui ne peuvent être réglées par un gouvernement démissionnaire qu’en cas d’urgence, le juge administratif ayant le contrôle de l’existence et du caractère de l’urgence ».

اي ما تعريبه: الاعمال المهمة التي يمكن ان تقوم بها حكومة مستقيلة في حالات العجلة تحت رقابة القضاء الاداري واشرافه.

3-« Les grands règlements statutaires et les règlements modifiant les dispositions légales ou les droits reconnus par la loi, qui ne rentrent jamais dans la compétence du gouvernement démissionnaire ».

اي ما تعريبه: الاعمال التنظيمية اي المراسيم غير الفردية التي ترمي الى تنفيذ قوانين، والتي تخرج حتما عن ولاية الحكومة المستقيلة.

يتبين مما سبق ان الحكومة المستقيلة لا يحق لها ان تتخذ قرارات في القضايا المهمـة (Les affaires importantes) الا فـي حـالتي العجلـة والضـرورة (En cas d’urgence et de nécessité).



خامسا: اما في ظل دستور ما قبل الطائف، فيمكن الركون الى القرار رقم 341 الصادر عن مجلس شورى الدولة في 19\1\1979 (عجاج جرجس ياغي/الدولة- وزارة الداخلية) الذي يحدد اطار "الاعمال العادية" بتفريقه بين "الاعمال الادارية" (Actes de gestion) و"الاعمال التصرفية" (Actes de disposition) التي تنقسم بدورها الى "اعمال تصرفية عادية" و"اعمال تصرفية استثنائية".

نجد قرارا لمجلس شورى الدولة يعود بعيدا في الزمن الى 17\12\1969 (راشد\الدولة)، يضع مفهوم تصريف الاعمال في اطار سد الفراغ ومنع حصوله، ويجمع بين الضرورة والعجلة، من حيث ان الاولى تبرر التدابير التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام وامن الدولة الداخلي والخارجي، في حين ان الثانية تبرر التدابير في الحالات التي فيها مهل قانونية ينجم عن مرورها اسقاط أو ابطال لحقوق عامة او خاصة مكرسة في القانون. خلص هذا القرار الى اعتبار عرف قيام رئيس الجمهورية بتكليف الحكومة المستقيلة البقاء في الحكم الى حين تأليف الحكومة الجديدة ونيلها الثقة، والقيام بما يسمى تصريف الاعمال العادية "مبدأ أصيلا من مبادئ القانون العام، واجب التطبيق في حالات فقدان الوزارة كيانها الحكومي المشروع".

من السوابق التي يمكن التوقف عندها في مرحلة ما قبل الطائف، نشير الى التدابير التالية التي اتخذتها حكومات مستقيلة:

- في عام 1969، انعقد مجلس الوزراء واقر مشروع الموازنة واحاله على مجلس النواب، في حين كانت الحكومة شبه مستقيلة بنتيجة اعلان رئيس الحكومة أمام مجلس النواب نيته التخلي عن مسؤولياته اثر اصطدام بين القوى المسلحة ومظاهرات شعبية.

- في العام 1975، اضطرت الحكومة المستقيلة الى عقد جلسة اقرت خلالها التدابير اللازمة لمواجهة الاحداث الدامية التي كانت تمر بها البلاد.

- في العام 1979، عقدت الحكومة المستقيلة جلسة اتخذت فيها مجموعة من القرارات، قد يكون ابرزها رفع سن تعاقد القضاة من 64 الى 68 سنة حرصا على استمرارية عمل السلطة القضائية التي كانت تواجه فراغا خطيرا بسبب احالة عدد كبير من القضاة على التقاعد لبلوغهم السن القانونية.



سادسا: اما ان يكون المشرّع الدستوري لعام 1990 لم يكتف بالاشارة الى "تصريف الاعمال" فقط في معرض ايراده ما يمكن ان تقوم به الحكومة المستقيلة او الحكومة المعتبرة مستقيلة او الحكومة التي لم تحز بعد على ثقة مجلس النواب، بل اضاف عبارة "بالمعنى الضيّق" تقييدا للتصريف الذي هو بحد ذاته تقييد لصلاحيات الحكومة التي تتمتع بولاية دستورية مكتملة، فمرد ذلك الى عدم الرغبة في اطالة أمد تأليف حكومة جديدة، وهي مسألة لا يمكن أن تسأل عنها أصلا حكومة تصريف الاعمال كون لا دور لها فيها، ولا يمكن بالتالي أن ترتد سلبا على أدائها وفقا للشروحات أعلاه.

ان المشرّع الدستوري لعام 1990، الذي لم يحدد مهلة صريحة وملزمة ومسقطة للتأليف، قد احال ضمنا هذه المسألة الى ما يسمى بالمهلة المعقولة délai raisonnable ، واحكم الخناق على حكومة تصريف الاعمال كي لا تستكين او لا يستكين سواها الى وضعها، بحيث تنهض الاسباب الضاغطة في سبيل تأليف الحكومة الجديدة في اسرع وقت ممكن، فتبادر الى وضع بيانها الوزاري لتتقدم به من مجلس النواب لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوما من تاريخ صدور مرسوم تأليفها.

لذلــــك، ارى التشدد في تفسير مفهوم "تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق" كون الاستثناء بحد ذاته يفسر تفسيرا ضيقا (L’exception est de droit étroit) فكيف بالحري اذا اضيف الى هذا الاستثناء، عند صياغته، ما يفيد صراحة بتضييقه؟



سابعاً : في ضوء كلّ ما سبق، أرى أنّ عبارة «تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق» إنما تعني وتحتمل ما يلي من تفسير في دائرة الولاية الحكوميّة الراهنة:


1- يحقّ للوزراء إفراديّاً، بل يجب عليهم، تسيير الأعمال اليوميّة والعاديّة في الإدارات التابعة لهم، لاسيّما أنّ المادة 66 من الدستور قد ناطت بهم أساساً إدارة مصالح الدولة وتطبيق القوانين والأنظمة، فتمارس هذه الصلاحيّة في ضوء مفهوم «تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق» باختصارها على الأعمال العاديّة بطبيعتها.

40578688- أما فيما يختصّ بمجلس الوزراء، فلا يحقّ له أن ينعقد إلا عند توافر حالات الضرورة والعجلة التي تفرضها ظروف استثنائيّة تتعلق بالنظام العام ومصالح الشعب الحيويّة (مثاله: التصدّي لجائحة كورونا/إعادة إعمار بيروت بعد انفجار المرفأ في 4 آب 2020 /وقف دعم المواد الحيويّة/ إقرار مشروع الموازنة العامة للدولة) وأمن الدولة الخارجي أو الداخلي، حيث يستعيد عندئذ، وعندئذ فقط، السلطة الاجرائيّة التي ناطها به الدستور، فيتم له عند انعقاده اتخاذ القرارات المناسبة بشأن المواضيع أعلاه من دون أيّ تجاوز لمقتضيات معالجتها، فتأتي هذه الاستعادة للولاية الدستوريّة كاملة في دائرة التصدّي للظروف الاستثنائيّة ليس إلا. أما لماذا «تحيي» الموازنة حكومة تصريف الأعمال، فلأنها تتعلّق بانتظام الماليّة العامة، والتحصيل والصرف، وهي قد تكون العمل الأهمّ الذي يقدم عليه مجلس النواب في دائرة اختصاصه التشريعي، ولأنّها مقيّدة بمهل محددة في الدستور (م 32 و 83 دستور)، ولأنّ أسر التأليف لا يمكن أن ينسحب على أسر الموازنة المتعلقة بالنظام العام كما أسلفنا. هذا وثمّة سوابق في هذا السياق لاجتماع مجلس الوزراء في ظلّ حكومة تصريف أعمال، يمكن التأسيس عليها.

40578689- يحقّ لرئيس مجلس الوزراء أو الوزراء إفراديّاً، كما لمجلس الوزراء مجتمعاً حين يكون معنيّاً بالأمر، المبادرة إلى اتخاذ الاجراءات اللازمة اذا كانت ثمّة أعمال إداريّة يجب القيام بها في مهل محددة في القوانين تحت طائلة سقوط الحقوق العامة أو الخاصة وإبطالها بفعل القانون، وذلك بحدود الحفاظ عليها.

40578690- إنّ المرجع الصالح لاعتبار أنّ ثمة دواع لانعقاد مجلس الوزراء لاتخاذ القرارات المناسبة بالمواضيع التي تتوافر فيها العناصر أعلاه، هو رئيس الجمهوريّة بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء عملاً بالنصوص الدستوريّة المرعيّة والتي سبق الإشارة إليها تفصيلاً. أما سلطة التقدير فتعود حكماً لرئيس الجمهوريّة، على الأقلّ من حيث المبادرة إلى التعبير عن اقتناعه بهذا الشأن، وهو الذي ناط به الدستور صلاحيّة دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد استثنائيّاً إذا رأى ذلك ضروريّاً بالاتفاق مع رئيس حكومة تصريف الأعمال، ذلك أنّ إيراد الاستثناء والضرورة معاً في نصّ المادة 53 الفقرة «12» من الدستور لم يأتِ من باب الترف أو العبث.



ثامنا: في ضوء كل ما سبق، ارى ان عبارة "تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق" انما تعني وتحتمل ما يلي من تفسير في دائرة الولاية الحكومية الراهنة:

1- يحق للوزراء افراديا، بل يجب عليهم، تسيير الاعمال اليومية والعادية في الادارات التابعة لهم، لا سيما ان المادة 66 من الدستور قد ناطت بهم اساسا ادارة مصالح الدولة وتطبيق القوانين والانظمة، فتمارس هذه الصلاحية في ضوء مفهوم "تصريف الاعمال بالمعنى الضيّق" باختصارها على الاعمال العادية بطبيعتها.

2- اما فيما يختص بمجلس الوزراء، فلا يحق له ان ينعقد الا عند توافر حالات الضرورة والعجلة التي تفرضها ظروف استثنائية تتعلق بالنظام العام ومصالح الشعب الحيوية وأمن الدولة الخارجي او الداخلي، حيث يستعيد عندئذ، وعندئذ فقط، السلطة الاجرائية التي ناطها به الدستور، فيتم له عند انعقاده اتخاذ القرارات المناسبة بشأن الظروف الاستثنائية اعلاه دون اي تجاوز لمقتضيات معالجتها، فتأتي هذه الاستعادة للولاية الدستورية كاملة في دائرة التصدي للظروف الاستثنائية ليس الا.


3- يحق لرئيس مجلس الوزراء او الوزراء افراديا، كما لمجلس الوزراء مجتمعا حين يكون معنيا بالامر، المبادرة الى اتخاذ الاجراءات اللازمة اذا كان ثمة اعمال ادارية يجب القيام بها في مهل محددة في القوانين تحت طائلة سقوط الحقوق العامة او الخاصة وابطالها بفعل القانون، وذلك بحدود الحفاظ عليها.

4- تبقى الاجراءات الاستثنائيّة أعلاه خاضعة لرقابة القضاء الاداري عند مراجعته، سيّما لجهة توافر عناصر العجلة والضرورة والانتظام العام، ومرور الزمن المسقط قانوناً والتي تستلزم اتخاذ مثل هذه الاجراءات الاستثنائيّة.


5- ان المرجع الصالح لاعتبار ان ثمة دواع لانعقاد مجلس الوزراء لاتخاذ القرارات المناسبة بالمواضيع التي تتوافر فيها العناصر اعلاه، هو رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء عملا بالنصوص الدستورية المرعية والتي سبق الاشارة اليها تفصيلا. اما سلطة التقدير فتعود حكما لرئيس الدولة، على الاقل من حيث المبادرة الى التعبير عن اقتناعه بهذا الشأن، وهو الذي ناط به الدستور صلاحية دعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد استثنائيا اذا رأى ذلك ضروريا بالاتفاق مع رئيس حكومة تصريف الاعمال، ذلك ان ايراد الاستثناء والضرورة معا في نص المادة 53 الفقرة "12" من الدستور لم يأت من باب الترف او العبث.



تاسعا: من البديهي ان يكون الرأي الصادر عن "هيئة التشريع والاستشارات" بتاريخ 18/4/2005 تحت الرقم 265/2005 والمشار اليه في متن هذه الدراسة قد أشار صراحة الى ان مجلس النواب يبقى محتفظا بكامل صلاحياته للتشريع في ظلّ حكومة تصريف اعمال، "وذلك سدا لأي فراغ" على ما أتى في الرأي المذكور. الا انه يبقى ان الحجج الدستورية تصب في خانة تعزيز هذا الرأي. يكفي ان نشير الى الرأي الفقهي الشهير الذي أبداه ادمون رباط في استشارة وضعها ردا على استطلاع رأيه القانوني في امكان التشريع في ظل حكومة مستقيلة، وذلك بموجب رسالة وجهها اليه في حينه رئيس مجلس النواب حسين الحسيني في الثالث من ايار عام 1988. ورد في استشارة ربّاط ان السلطة التشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية ويتوجب عليها أن تستمر في ممارسة صلاحياتها الدستورية في حال وجدت السلطة التنفيذية نفسها في حال من الشلل والانقسام، وهي حال لا يمكن ان تنسحب على السلطة التشريعية ما دامت قادرة على ممارسة وظائفها الدستورية، بخاصة التشريع، وان لم تكن قادرة على ممارسة اختصاصها البرلماني الآخر، الا وهو اجراء الرقابة على السلطة التنفيذية. خلص الرأي الفقهي المذكور على أنّ استقالة الحكومة "لا تحول على كل حال دون ممارسة المجلس النيابي كامل سلطته التشريعية، الامر الذي يجعل جميع اعماله التشريعية سليمة ليست فيها أية شائبة ولا يمكن ان يطالها اي نقض او اعتراض".


ان هذا الرأي الاستشاري يقع في موقعه السليم، ذلك ان الرجل الذي أبداه يعتبر من المراجع الفقهية المتبحرّة في العلم الدستوري وفي النتاج الفقهي والمرجع الاكثر رجاحة في العلم المذكور، لا سيما ان هذا الرأي يحاكي مبادئ دستورية وأحكاما لا يمكن ان تظللها شائبة بمجرد اختلال سلطة الاجراء:


- ان المادة 16 من الدستور، التي لم يطرأ عليها أي تعديل منذ 1927، تنيط صراحة السلطة المشترعة بهيئة واحدة هي مجلس النواب.

- ان مبدأ الفصل بين السلطات هو مبدأ دستوري نصت عليه مقدمة الدستور كمرتكز للنظام الدستوري اللبناني، وهو يعني، فيما يعنيه، أنه لا يسع لأي سلطة دستورية قائمة، خارج الاجازة الدستورية، أن تشلّ اختصاصات سلطة أخرى قائمة بصورة سليمة.

- ان انكار حق التشريع على مجلس النواب الذي ناط به الدستور دون سواه السلطة المشترعة يجبه ايضا مبدأين دستوريين آخرين وواردين نصيا في مقدمة الدستور:

o لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية.

o الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة التي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية.

فكيف ينكر على الشعب ممارسة سلطة التشريع عبر مجلس النواب في ظلّ نظام برلماني بامتياز، وبغياب نص صريح يجيز ذلك استثنائيا؟


-هل يعقل ان يعمم الاختلال على سائر السلطات الدستورية، ام ان يقتصر الاستثناء على السلطة التي تعاني من الاختلال؟ ان مبدأ استمرارية الحياة العامة le principe de la continuité de la vie nationale يحتّم عدم تعميم الفراغ في سلطات الدولة. لا يرد على ذلك بأن مجلس النواب قاطع حكومة افتقرت الى طيف كامل من وزرائها من طائفة مؤسسة ووازنة ومقاومة في آن ولم يشرع في ظلها، سواء عن طريق اقتراحات القوانين او مشاريعها، ذلك ان كل شرعية تنزع عن اي سلطة تناهض ميثاق العيش المشترك عملا بالفقرة "ي" من مقدمة الدستور، فتلجأ سائر السلطات الى مقاطعتها وانهاكها انهاكا شرعيا، طالما انه لا يوجد نص دستوري يتيح لأي سلطة اخرى حلّها بسبب افتقارها الى الشرعية الميثاقية والدستورية.


-ان مجرّد اعتبار مجلس النواب منعقدا حكما في دورة انعقاد استثنائية عند استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة، على ما ورد في الفقرة (3) من المادة 69 من الدستور، حتى تأليف حكومة جديدة ونيلها الثقة (هذا اذا لم يكن مجلس النواب أصلا في دورة انعقاد عادية، كما هي الحال راهنا اذ ان المجلس في العقد العادي الاول من السنة الحالية)، لا يمكن تبريره بمجرد أن الحكومة مستقيلة الا من منطلقين: الاستمرار في التشريع والتأهب لجلسة البيان الوزاري للحكومة الجديدة ومنح الثقة او حجبها.


ان كل تفسير آخر لا يتوافق وشمولية النص الذي لم يذكر أي شرط أو تقييد او استثناء لاختصاص مجلس النواب المنعقد في عقود عادية او حكما في عقد استثنائي.


- ان المادة (34) من الدستور تقصر عدم قانونية اجتماع المجلس على عدم توافر نصاب حضور أكثرية الاعضاء الذين يؤلفونه (النصف زائدا واحدا).


عاشرا: اما وان حكومة تصريف الاعمال بالمعنى الضيق انما تصبح حكومة مكتملة الاوصاف والاختصاصات الدستورية في الحالات الموصوفة في هذه الدراسة، يبقى السؤال مطروحا عن امكانية توسلها المراسيم الاشتراعية في الحالات المذكورة، سواء بتفويض من مجلس النواب او من دون هذا التفويض عند نهاية ولاية هذا المجلس وعدم انتخاب مجلس جديد، على سبيل الافتراض الجدلي. ان التفويض غير ممكن حتما وقطعا، الا ان السؤال يبقى مطروحا ومستحقا مزيدا من التمحص والتفحص في حال عدم وجود سلطة مشترعة واضطرار حكومة تصريف الاعمال، عند توافر الضرورة والعجلة، الى اصدار مراسيم ادارية ذات قيمة تشريعية.



حادي عشر: يبقى السؤال المحوري : ماذا لو لم يكن ثمّة رئيس في سدّة رئاسة الجمهوريّة، والحكومة تصرّف الأعمال؟

كثُرت الاجتهادات، في حين أنّ نصّ المادة 62 من الدستور لا يعوزه جهد للوقوف على نيّة المشرّع الدستوري، الذي ناط، في المادة المذكورة، صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وكالةً بـمجلس الوزراء في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأيّ علّة كانت، هذه العلّة التي عاد المشرّع الدستوري وأشار على سبيل المثال إليها في المادة 74 من الدستور حيث ذكر وفاة الرئيس أو استقالته أو أيّ سبب آخر، ما يشمل في النصّين انتهاء الولايّة الدستوريّة.


لم يأتِ عبثاً في نصّ المادة 62 من الدستور إيلاء مجلس الوزراء وكالةً صلاحيّات رئيس الجمهوريّة حال خلوّ سدّة الرئاسة، وهو المرجعيّة الدستوريّة التي ناط بها الدستور السلطة الإجرائيّة، على أن يتولاها وفقاً لأحكامه (م 17)، تلك الأحكام التي تشمل ممارسة صلاحيّات رئيس الجمهوريّة وكالةً.

من الطبيعي جداً أن يولي المشرّع الدستوري هذه الهيئة الجماعيّة، التي تتولّى السلطة التنفيذيّة، ممارسة صلاحيّات الرئيس عند خلوّ السدّة لكنّ المشرّع لم يلحظ أثر انحسار اختصاص مجلس الوزراء أصالة (م 17 و م 65 دستور) في حال كانت الحكومة مستقيلة أو معتبرة مستقيلة بحيث تضيق دائرته إلى حدود تصريف الأعمال ليس إلا، وفق ما بيّنا أعلاه، على ممارسة صلاحيّات الرئيس وكالة.


لذلك اعتبر بعض الفقهاء الدستوريين، ومنهم النائب السابق حسن الرفاعي أطال الله عمره المديد (أنظر مقال ألين فرح في «النهار» عدد 2/3/2014) أنّ حكومة تصريف الأعمال هي حكومة بحكم الميت، فكيف لها، والحال على ما هي عليه، أن تمارس اختصاصها الدستوري أصالةً، وبصورة أولى وكالةً فيما يختصّ بصلاحيّات رئيس الجمهوريّة عند خلّو السدّة.

لذلك، في حال كانت الحكومة مستقيلة أو معتبرة مستقيلة، فتصرّف الأعمال بالمعنى الضيّق، لا يسعها ممارسة صلاحيّات الرئيس حال خلوّ سدّة الرئاسة إلا بمفهوم الضرورة والعجلة الماسّة ومصلحة الشعب العليا على ما أسلفنا تفصيلاً في معرض مفهوم تصريف الأعمال أعلاه، كلّ ذلك باستثناء الصلاحيّات اللصيقة بشخص الرئيس والمتروكة له من دون سواه، على غرار القرارات التي يتخذ بمراسيم توقع منه بالانفراد، أو التي يبادرها الرئيس باستنسابه المطلق، وهي صلاحيّات محددة في الدستور ولا تحتاج إلى عناء تحديد أو تعداد أو تفسير.


يبقى أنّ المرجعيّة التي يحددها الدستور لاستنساب حالة الضرورة، كمثل دعوة مجلس الوزراء استثنائيّاً بالاتفاق مع رئيس الحكومة عندما يرى ذلك ضروريّاً (ف12 م 53 دستور)، أو توجيه رسائل إلى مجلس النواب عند الضرورة باستنسابه (ف 10 م 53 دستور)، إنما هي رئيس الجمهوريّة، ما يدعو إلى السؤال حتماً عن المرجعيّة التي تعود إليها صلاحيّة تحديد حالة الضرورة، تحت رقابة القضاء الدستوري أو الإداري، حال خلوّ سدّة الرئاسة؟

إنّ الإجابة التي تستقيم دستوريّاً هي أنّ رئيس مجلس الوزراء هو الذي يدعو مجلس الوزراء إلى عقد جلسة للنظر في المواضيع التي تتوافر فيها عناصر الضرورة القصوى والحاجة الماسّة والمصلحة العليا للدولة، وهي ليست بالضرورة المواضيع الأربعة عشر المدرجة في المادة 65 من الدستور والتي تفرض المادة المذكورة توافر موافقة ثلثيّ عدد أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها لإقراره. إنّ الموضوع الأساسي لا يعني حتماً الموضوع الضروري.


أما إذا انعقد مجلس الوزراء لاتخاذ قرار في أيّ موضوع ضروري أو عاجل أو متعلّق بالمصلحة العليا للدولة، فالرأي رأيان في النصاب وأكثريّة التصويت، ومردّ ذلك إلى العرف الدستوري الذي نشأ في الممارسة التي تمّ انتهاجها في حكومة الرئيس تمام سلام إبّان خلوّ سدّة الرئاسة بانتهاء ولاية الرئيس العماد ميشال سليمان، وهي اعتماد إجماع الوزراء الذين تتألف منهم الحكومة مشاركة وتصويتاً، أو العودة إلى المادة 65 من الدستور لجهة ضرورة توافر نصاب حضور الثلثين من عدد الأعضاء الذين تتألف منهم الحكومة وأكثريّة التصويت الموصوفة ذاتها لاتخاذ القرارات بشأن المواضيع تلك والتي يقتصر جدول الأعمال عليها.



من هنا كانت دعوتنا إلى تأليف حكومة مكتملة الاوصاف الدستوريّة وحائزة على ثقة مجلس النواب، فتصبح متحررة من أيّ اجتهاد مقيّد أو عرف خاطئ لا يستقيم الارتكاز عليه لاحقاً، حتى إن استحال لا سمح الله انتخاب رئيس للجمهوريّة قبل نهاية الولاية الرئاسيّة الراهنة، بادرت الحكومة، المنعقدة في هيئة مجلس وزراء، إلى ممارسة صلاحيّات الرئيس وكالةً.

دعوتنا هذه تنطلق مخلصة من أنّ انتخاب الرئيس قبل انتهاء الولاية الدستوريّة أمر وجوبي يعفينا من كلّ اجتهاد أو فقه أو عرف، وإلا ذهبنا إلى الأسلم والأصحّ من الأمور بتأليف حكومة تكتمل أوصافها الدستوريّة بمنحها ثقة مجلس النواب، وذلك حؤولاً دون مراكمة الفراغ على الفراغ والتأويل على التأويل والتفسير على التفسير وتبدّل الآراء حسب الأهواء وغبّ الطلب، سيّما أنّ لبنان يعاني من أزمات حادّة واستحقاقات داهمة وأنّ شعبه لم يعد يحتمل غياب المعالجات الناجعة لمأساته التي نتجت عن يد البشر أو غدر القدر.

ويبقى السؤال الأخطر: هل يستقيم ميثاق العيش المشترك بغياب رئيس الدولة وأيّ شرعيّة تبقى لسلطة تحت وطأة هذا الغياب ؟

وفي المحصّلة، أينك يا طائف؟ وأين رعاتك؟



*وزير سابق- مستشار رئيس الجمهورية