طانيوس شهوان

سيادة الدولة عمامتها

26 تشرين الأول 2022

02 : 00

طانيوس شهوان

منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم وتشريع العمل الفدائي الفلسطيني في جنوب لبنان، سقط مفهوم دولة لبنان «الواعدة والناجحة» واتجه لبنان، رويداً رويداً، نحو مفهوم الدولة «المارقة والفاشلة».

جلّ ما أريده من هذه المقاربة معاينة الواقع اللبناني من منطلق تقويم ممارسة الدولة اللبنانية سيادتها على ترابها الوطني وحماية حدودها المعترف بها دولياً. فمفهوم الدولة الناجحة أو الفاشلة في المعايير الأممية يبدأ أولاً من تقييم قدرتها أو عدمها على ممارسة السيادة على كامل أراضيها وترابها الوطني وحماية حدودها المعترف بها دولياً.

إنها محاولة تبتغي التفكّر في ما نتج عن ممارسة الدولة اللبنانية سيادتها النسبية (ما من سيادة مطلقة في أي بلد من البلدان نتيجة التداخل المجتمعي والجغرافي المعقّد) على كامل أراضيها، في فترة قدرتها على ذلك، وما نتج عن عدمها، في فترة عدم قدرتها على ذلك. فممارسة الدولة للسيادة هي المؤشر الأول لاكتسابها هويتها الدولاتية.

في الواقع جاءت إتفاقية القاهرة تاريخاً حاسماً في مسار ممارسة الدولة اللبنانية سيادتها على كامل أراضيها وترابها الوطني وحماية حدودها. فما كان قبلها على هذا الصعيد تناقض مع ما جاء بعدها. فماذا تغيّر في لبنان بعد توقيع هذه الإتفاقية؟

قبل توقيع إتفاقية القاهرة كانت الدولة اللبنانية قد نجحت في ممارسة سيادتها إستناداً الى قواعد ومقاييس قيام الدول بذلك واستناداً الى القانون الدولي والعلاقات الديبلوماسية المركّبة.

أما بعد توقيع هذه الاتفاقية، وتشريع العمل الفدائي في جنوب لبنان منذ نهاية ستينات القرن الماضي، فقد دخلت الدولة اللبنانية في نفق الفشل في ممارسة سيادتها على التراب الوطني وحماية حدودها، وهو ما يستمر الى يومنا هذا. فإذا كانت مسيرة التآمر على سيادة الدولة قد بدأت مع تشريع العمل الفدائي في جنوب لبنان، فهي استمرت مع وضع يد سوريا على لبنان منذ العام 1977 حتى العام 2005، بمباركة إقليمية ودولية، والتي انتهت باستشهاد الرئيس رفيق الحريري. واستدام التراكم في تفجير مفهوم الدولة، بعد خروج سوريا من لبنان في العام 2005 واندلاع النزاع الداخلي في سوريا، من خلال وضع يد إيرانية على المجال اللبناني بعد اندحار النظام الإقليمي العربي وسقوط غالبيته على أثر الربيع العربي.

لقد ترسّخت الدولة الفاشلة في الكيان اللبناني نتيجة الإمعان في استباحة سيادتها على أراضيها ومنعها من حماية حدودها وفشلها في «احتكار ممارسة العنف» في المجال الوطني.

فمنذ العام 1969 حتى اليوم سقطت سيادة الدولة على أراضيها، ونتج عن هذا السقوط تحدٍّ ذو بعدين:

داخلي، بتخلّف الدولة عن وظيفتها تجاه شعبها في إقامة دولة القانون وإحقاق العدل بين جميع المواطنين وتوفير النماء الإنساني الكامل لكل الأفراد والشرائح الاجتماعية المكوّنة للنسيج الوطني الاجتماعي.

وخارجي، تمثّل تباعاً، بتصدير كل أنواع الإرهاب الى الإقليم والعالم وتعميم الممنوعات على أنواعها.

وأنتج هذا السقوط، على المستوى الداخلي، تخلّفاً مجتمعياً في لبنان أصاب النسيج الاجتماعي الذي كان في غالبيته من الطبقة الوسطى عشية الحرب اللبنانية في العام 1975؛ فيما شكّل هذا السقوط، على المستويين الإقليمي والدولي، لبلدان الإقليم والعالم، «وجعة رأس» مستدامة وكلّف هذه الدول مئات مليارات الدولارات التي صرفت في سياق ما كان مخططاً للبنان على مدى 52 عاماً لا لمصلحة لبنان وشعبه. تقاعست الدولة منذ ذلك التاريخ عن ممارسة أدوارها الناتجة عن وظيفتها السيادية المطلقة على شعبها وحماية حدودها المعترف بها دولياً، أو مُنعت من ذلك، فنتج عن هذا وذاك، وعلى مدى 52 عاماً:

- إستباحة متمادية إسرائيلية للأراضي اللبنانية أدت الى 5 حروب، وقد كلّفت لبنان آلاف الشهداء ومليارات الدولارات.

- نشوء قوى أمر واقع إقتسمت مداورةً السيادة على التراب الوطني في كل لبنان.

- الاعتداء على موارد الدولة والمال العام.

- إستباحة حدود الدولة البرية والبحرية والجوية.

- تنامي أعمال تهريب المحرمات والموبقات على أنواعها في كل الاتجاهات.

- تنامي الجرائم وأعمال القتل والمجازر الجماعية.

- فقدان عشرات آلاف الأشخاص اللبنانيين المجهولي المصير.

- سقوط 200 ألف قتيل وآلاف الجرحى والمعوّقين.

- تنامي أعمال الاتجار بالبشر والترويج للمخدّرات وتعاطيها.

- التهجير الجماعي والفرز السكاني، الطائفي والمناطقي.

- إستدانة الدولة وترهّل نظامها الاقتصادي والمالي.

- نهب ودائع المودعين اللبنانيين وجنى عمرهم.


هذا غيض من فيض التآمر على الدولة منذ العام 1969 حتى يومنا هذا عبر منعها من ممارسة سيادتها على شعبها وحماية حدودها المعترف بها دولياً؛ ولعّل آخر غيث هذه المرحلة السياسية في تاريخ لبنان، مرحلة سقوط مفهوم السيادة في لبنان، هو توقيع إتفاقية ترسيم الحدود الذي فرّط بحقوق لبنانية لم تفرّط بها الدولة في فترة قدرتها على ممارسة سيادتها على أراضيها واكتفت باتفاقية الهدنة مع إسرائيل إطاراً وحيداً للعلاقة معها. يومها إتهمت الدولة اللبنانية بالضعف والقصور وبالتفريط بالسيادة لكنها في الواقع سعت الى التخفيف من آثار النزاع العربي الاسرائيلي عليها ومن تداعيات الحرب الباردة الحامية الوطيس في تلك الفترة. لقد نجحت دولة السيادة «النسبية» في تجنيب لبنان الكثير من الويلات ولم تكن كلفة سياسة الدولة في تلك الفترة (منذ نشوء دولة إسرائيل في العام 1948 حتى العام 1969) باهظة كما كانت بعد سقوط سيادة الدولة منذ العام 1969 حتى يومنا هذا. الحق يقال: سيادة الدولة عمامتها.

(*) باحث