د. ميشال الشماعي

الشغور الرئاسي حتميٌّ والتسوية قادمة

28 تشرين الأول 2022

02 : 00

بدأ العدّ التنازلي للوصول عمليّاً إلى الشغور الرئاسي الذي لا يُعتَبَرُ هدفًا بل نتيجة لممارسة هذه «المنظومة» التي على ما يبدو أنّها ما وفرت جهداً للوصول إلى هذه النتيجة، حتى باتت الإشكالية اليوم عن مدّة هذا الشغور الرئاسي، لا عن طبيعته، إذ بات حتمياً. وما كان فريق إيران ليطالب بتوافق تشاركيّ في هذه الانتخابات لو أنّه يملك الأكثريّة المطلقة. من هنا، يبدو أنّ اللين السياسي الذي يعتمده هذا الفريق في خطابه هو نتيجة عدم قدرته على الاتّفاق في البيت نفسه، مع العلم أنّ سلطة إيران في لبنان قد نجحت بفرض أمر واقع مستخدمةً قدرتها على استعمال السلاح غير الشرعي لتترجم إرادتها سياسيّاً. من هذا المنطلق، يجب تغيير استراتيجيات المواجهة من قبل الفريق السيادي مع التأكيد على الثبات فيها. ولقد أثبتت التجارب مع هذا الفريق السياسي أنّه قادر على إبطال مفاعيل الديمقراطية بقوة السلاح، وهذا لا يعني عمليّاً أن تنتقل استراتيجية المواجهة من السياسة إلى العسكر، كما هو يريد، لأنّ هذا الميدان الوحيد الذي برع فيه .

‏وما نجاحه دائماً في إجهاض النتائج السياسية إلّا نتيجة لإصرار الفريق السيادي على اعتماد الطرق نفسها، حتى لو تغيرت استراتيجيات المواجهة. وعلى ما يبدو أنّ هذا الفريق يعمل اليوم على استغلال «المومنتم» الدولي الذي هو بأمسّ الحاجة إلى تسجيل نصر في السياسة الخارجية للدول العظمى انطلاقًا من تأمين المصالح والحاجات فيما يتغذى من سوق النفط والغاز.

فهو قدّم، ومن تاريخ وجيوب اللبنانيين جميعهم، في ملف الترسيم تنازلات تفوق ما يمكن أن يخسره في أيّ مواجهة عسكريّة. وذلك كلّه بهدف الحفاظ على مكاسبه في السلطة، إضافة إلى تأمينه موارد شرعية جديدة لتمويل منظومته الفاسدة ليتمكن من الاستمرار في السلطة في المرحلة القادمة.

‏من هنا، الحاجة اليوم إلى استراتيجية جديدة للمواجهة يكون قوامها إطاراً جبهويّاً كيانيًاً سياديّاً لا يستثني من أجندته المجتمع الدولي الذي يجب وضعه أمام مسؤولياته تجاه القضية اللبنانية. ولعلّ التخاذل الذي مارسه المجتمع الدولي إزاء قضيتنا هو نتيجة لمهادنة الشيطان خوفاً من تجاربه. وهذا المسار الإنحداري التنازلي الذي اعتمده فريق 14 آذار منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بهدف لبننة منظمة «حزب الله» قد أثبت فشله.

حتى عملية الاحتواء التي ادّعى فريق العهد ممارستها مع منظمة «حزب الله» قد أدّت إلى انصهاره هو نفسه في هذا المحور؛ مع العلم أنّ ذلك أتى نتيجه لذمّيّته بهدف الاستئثار بكلّ المراكز التي أغدقتها عليه منظمة «حزب الله». مع كل ما تزامن من أجندة تنفيذية لتحقيق مصالح هذه المنظمة، ولو على حساب وجودية لبنان.

‏ورُبَّ سائل اليوم عن جدوى أي مواجهة سياسية مع السلاح غير الشرعي. من هنا ضرورة صياغة طرح سياسيٍّ جديد وفريد يتماشى مع الواقعية اللبنانية. وإسقاط التابوهات عن الفدرالية والكونفدرالية وعدم السماح بشيطنتها كما كان يحدث في الماضي. وحدها الصيغة الجديدة الاستثنائية اللبنانية، مع الحفاظ على روحية المناصفة التي ثبّتها اتفاق «الطائف» تُبطل كل البدع والمحاولات الانقلابية على صيغة لبنان الجديد. ولا خلاف حول طبيعة مدنية الدولة لأنّنا لا نؤمن بالحكم التيوقراطي أو الديكتاتوري، أو التبعي لأي «نظام ملالي» كان أو غيره.

وعلى ما يبدو انّ سلطة إيران لن تتبنّى أيّ مرشّح رئاسي لا يقدّم لها الطّاعة. وحتّى الساعة يبدو هذا الأمر متعذّراً. لذلك، هي تسعى للوصول إلى الشغور الرّئاسي، بهدف أن تلعب ورقة ضغطها على المجتمع الدّولي الذي قد يكون الرّاعي لأيّ تسوية؛ بهدف تحسين شروطها التسوويّة خارجيّاً.

وقد تلعب أوراق قوّتها كلّها، بما فيها افتعال أيّ فوضى أمنيّة بهدف الضغط الدّاخلي للدفع نحو التسوية الموعودة، لا سيّما بعد ارتفاع أصوات معارضة الحوار الذي دعا إليه دولة الرّئيس نبيه برّي. بذلك تتحصّن داخليّاً وخارجيّاً وتصبح بموقع المفاوَض القوي لا المفاوِض الضعيف. مع علمها أنّ مَن يواجهها لا يملك أيّ استراتيجيّة جديدة غير تلك التي اعتادت على تطويعها منذ ذلك السابع من أيّار 2008 وحتّى ما قبله.

بالطبع ليس المطلوب ممارسة التقيّة واحتواء منظّمة «حزب الله» كما فعل المجتمع الدّولي ليحقّق مصالحه على حساب لبنان، بل العمل على إعادة عزلها دوليًّا عبر تفعيل المطالبة بتنفيذ القرارات الدّوليّة؛ مع طرح أجندة جديدة لمناقشة الصيغة اللبنانيّة في مؤتمر دوليّ يضغط لتنفيذه مَن طالب به، أي البطريركيّة اللبنانيّة، على قاعدة أكثر من فدراليّة وأقلّ من كونفدراليّة، مع ضمانة الحياد البطريركي، وفي كنف الكيانيّة اللبنانيّة بعيداً من كلّ المشاريع التقسيميّة؛ بهدف مواجهة علنيّة لما بات يُطرَحُ بالعلَن من مشاريع دستوريّة قد تتبنّاها سلطة إيران وعملاؤها في لبنان قوامها مثالثة أو حتّى أكثر. ذلك كلّه لأنّ الشغور الرئاسي بات حتميّاً، وكي لا تكون التسوية على حساب لبنان الحضارة والتّاريخ والمستقبل.