خالد أبو شقرا

تُسابِق المواطنين على شراء الدولار و"تبكي" على الليرة

لعبة المصارف مكشوفة... من أول "ضرب"

30 كانون الأول 2019

02 : 00

إذا كان "حبْس" الودائع بالعملات الأجنبية مفهوماً، إنما غير مسوَّغ، فإن تقسيط السحوبات بالليرة اللبنانية، لا يُعبّر عن أزمة في القطاع المصرفي، إنما لعبة تُديرها عقول لا تهتمّ سوى بالربح، حتى في عزّ الأزمات.

التقييد النقدي المخفي "capital control" على الليرة اللبنانية، الذي ظهر عقب إقفال المصارف لمدة أسبوعين متتاليين في نهاية تشرين الأول، لم يكن فاقعاً. فهو حدّد سقف السحب الأسبوعي بـ 25 مليون ليرة. لكن مع استفحال الأزمة، واتضاح أن مسارها سيكون طويلاً ومعقّداً، ولن تنفع معه مسكّنات التقييدات النسبية، ومراهم إيهام الناس بقدرة المصارف الفذّة، عمدت مختلف البنوك إلى تقسيط الرواتب الموطّنة لديها بالليرة اللبنانية على أسابيع، لدرجة أن كثراً فقدوا القدرة على سحب كل راتبهم في شهر واحد.

شراء الدولار

هذا الإجراء، الذي "استفز" شكلياً وزير المال علي حسن خليل ودفعه للتهديد عبر "twitter" بإمكان اتخاذ اجراءات بحق المصارف، لا يعدو بحسب د. حارث سليمان كونه "التفافة جديدة غير قانونية من المصارف، لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب المواطنين والمودعين وكل من ائتمنها على أمواله وجنى عمره".

الواضح أن المصارف لا تواجه نقصاً في السيولة بالليرة اللبنانية، خصوصاً في الحساب المتعلق بتحويلات وزارة المال المخصصة لدفع الرواتب والأجور. وبالتالي فإن "لجوءها إلى تقنين السحوبات، ومنع الموظفين من الحصول على رواتبهم كاملة، هو مؤشر الى أن المصارف تصادر السيولة الناتجة من الرواتب لتستعملها في غير موقعها القانوني، لكي توفّر على نفسها كلفة الإقتراض بواسطة "الإنتربنك" interbank واضطرارها إلى دفع فوائد مرتفعة على هذه العملية"، يقول سليمان.

الخطير في الموضوع هو أن لجوء المصارف إلى "قرصنة" حسابات العملاء من الموظفين، لا يتعلق بتأمين دفع استحقاقات الفوائد على الودائع بالليرة اللبنانية، أو لارجاع ودائع كبيرة بالليرة طرأت عليها، إنما "لتوظفها في شراء الدولار من السوق بالسعر المعتمد، في عملية مضاربة على الليرة اللبنانية".

هذه العملية تنطوي على مخالفتين قانونيتين: الأولى هي حبس الاموال عن مستحقيها، الثانية هي إستعمال هذا المال في المضاربة على الليرة اللبنانية ومن أجل اتّجار غير مشروع بالدولار ومصادرته من الأسواق لتحقق المزيد من الأرباح مع كل انخفاض في قيمة العملة الوطنية.

شراكة في الفساد 

يوجد في المصارف ثلاثة أنواع من الأموال:

- الأموال الخاصة، وتتمثل في الرأسمال والموجودات سواء كانت أسهماً أم عقارات.

- الودائع لأجَل، التي هي عبارة عن المحافظ المالية التي تديرها.

- الحسابات الجارية.

ويلفت سليمان إلى أن "العمل المصرفي السليم يقتضي، استخدام الودائع في التوظيف وليس في المضاربة، عدم مصادرة الحسابات الجارية والمحافظة على الأموال الخاصة وعدم تهريبها الى الخارج. وهي ثلاثة شروط نقضها السلوك المصرفي اللبناني".

أولاً، موازنات المصارف منذ التسعينات وصولاً إلى اليوم تظهر ارتفاع أرباح المصارف إلى حدود 24 مليار دولار، وإذا أضفنا إليها ما تملكه من أموال خاصة وعقارات يصبح الرقم 30 مليار دولار. من المفترض انه لم يتم التصرف بهذه الاموال لا على شكل تسليفات ولا على شكل ودائع في المصرف المركزي. فأين ذهبت هذه الاموال؟

هل ما زالت موجودة داخل لبنان في النظام المصرفي، ويتمّ حجبها عن أصحاب الحقوق؟ أم تمّ تحويلها الى الخارج؟

ثانياً، بدلاً من توظيف الودائع في الإقتصاد المنتج وزيادة نسب النمو ودعم القطاعات الصناعية والزراعية والتجارية التي تخلق فرص عمل وترتقي بالإقتصاد، إختارت المصارف الطريق السهل والمشبوه، عبر الإكتتاب بسندات الخزينة ذات الفوائد المرتفعة، لدولة فاسدة لا تملك ملاءة مالية وليس لديها أبسط الضمانات لارجاع هذه الأموال. مسؤولية ضياع الودائع أو خسارتها تقع حصراً على البنوك. لأن الاستثمار في سندات عالية المخاطر كان خيارها وليس خيار المودعين، ولم تحافظ على الودائع عبر حمايتها وإبعادها عن التوظيفات المشبوهة التي تشبه الى حد ما المقامرة. وبالتالي فإن النظام المصرفي اللبناني أثبت أنه فاسد كما السلطة، ويجب معاقبة البنوك المخالفة على الخيارات التي اتخذتها بذهابها بشكل غير قانوني ولا يعكس أي خبرة، ويخالف أبسط قواعد العمل المصرفي والمالي والسلوك الطبيعي للعمل المصرفي.

ثالثاً، في الوقت الذي يفترض بأفعال أصحاب المصارف أن تترك مسحة خجل على وجوههم، وفعل الندامة على سلوكهم، كونهم مساهمين في صناعة الكارثة النقدية، يظهرون فعل الوقاحة ويعملون على استغلال هذه الازمة الاقتصادية، من أجل زيادة أرباحهم وبعدم استعدادهم إلى التخلي ولو عن جزء بسيط من عائداتهم. فبدلاً من أن يبدوا استعداداً للمساهمة في تحمّل أعباء الازمة، يذهبون الى استغلالها عبر تهريب اموالهم الخاصة الى الخارج بطريقة غير أخلاقية، حتى لو انها لغاية الساعة ما زالت غير مخالفة للقوانين. وبالتالي يحوّلون نظام مصارفهم من نظام مصرفي الى مافيوي.

هذا الواقع لا يشكّل صدمة للمودعين الخائفين على أموالهم فحسب، إنما للمراقبين والمستثمرين في الداخل والخارج الذين خدعوا لسنوات طويلة بمظهر جذاب أخفى وراءه قلة احتراف في مجال العمل المصرفي.