وهبي قاطيشه

لماذا الإصرار على رئيس سياديّ سياسيّ؟

2 تشرين الثاني 2022

02 : 00

وهبي قاطيشا

لأنّ الأزمة في لبنان هي سياسية سيادية بامتياز. ولأنّ السياسة هي التي تصنع الحرب أو السلم، هي مصدر الغنى أو الفقر، هي التي تنسج العلاقات الدولية، لتنتج إمّا تعاوناً مع المحيط الأقرب والعالم الأبعد من هذه الدول، أو تتسبب بالجفاء والجفاف مع هذه المكونات... باختصار، السياسة التي تنتهجها الدول، هي التي تنعكس سلباً أو إيجاباً على كلّ قطاعات الإقتصاد والنقد والتجارة والثقافة والقدرة والإزدهار... السياسة هي مصدر نجاح أو فشل كلّ هذه القطاعات.

الأمثلة عديدة، تاريخيَّاً وحاضراً، تؤكّد تأثير السياسة في حياة الشعوب. السياسة جعلت من كوريا الشمالية فقيرة إلى جانب توأمها كوريا الجنوبية الغنية والمزدهرة. السياسة بيَّنت التفاوت الشاسع بين الألمانيتيْن، الشرقية والغربية أثناء الحرب الباردة. السياسة أكّدت على تخلّف الإتحاد السوفياتي وانهياره مع كل حلفائه حول العالم... الأمثلة الواقعية لا تنتهي وهي تؤكّد أنّ تطور الدول وازدهار الشعوب ناتج عن السياسة التي تنتهجها هذه الدول.

عندما نطالب برئيس جمهورية متمرس سياسيَّاً في لبنان، ليس لأنّ بقية اللبنانيين، الذين لايمتهنون السياسة، ممنوع عليهم أن يكونوا رؤساء، طبعاً لا. لكن ليقيننا أنّ المشكلة الأساسية في لبنان، سببها سياسته المتبعة منذ عقد ونيف. سياسةٌ عزلته عن محيطه، ورمته في «ممانعة» لا يعرف معناها ولا حدودها حتى الذين اخترعوها لتخدير المواطنين، وأساءت لعلاقاته مع أصدقائه في العالم، ليقف اليوم على حافة الإنهيار المالي والإقتصادي والإداري... والسياسي. إذ لا يمكن وقف هذه الإنهيارات، إن لم نصحّح المسار السياسي للدولة.

لنفرض جدلاً أننا اخترنا أفضل خبير إقتصادي في لبنان والعالم، ليقوم بمسؤوليات رئيس الجمهورية في لبنان، فهل يمكنه إنقاذ لبنان من محنته إن لم تصطلح فيه السياسة: بتصحيح العلاقات مع الخارج، وضبط الحدود البرية والبحرية والجوية لمنع التهريب، واحتكار الدولة لقرار السلم والحرب...؟ من هنا المطالبة والإصرار على أن يكون الرئيس المنتخب في لبنان سياسيَّاً وسياديَّاً لمواجهة الأزمة السياسية وتصحيح مسارها، لينعكس ذلك إيجابيَّاً على بقية القطاعات المنتجة في لبنان.

طبعاً لا يُقصدُ بعبارة المواجهة، مواجهة عسكرية كما يحلو لبعض سيّئي النية تسويقها، إنما مواجهة سياسية وتحدٍّ ديموقراطي. أليست الحياة كلها تحدّياً ومواجهة؟ أليست الإنتخابات النيابية مواجهة وتحدّيً بين المرشحين؟ أليست القطاعات التجارية والصناعية وغيرها عبارة عن نشاطات مجبولة بالتحدّي والتصارع في سبيل الأفضل؟ أليست الصراعات حتى داخل حتى الحزب الواحد نوعاً من التحدّي والمواجهة؟ طبعاً كلّ الذين يحاولون إعطاء هذه العبارات معاني تتنافى مع الحياة السياسية في لبنان ينطقون بالباطل، لأنهم يخافون من المواجهة الديموقراطية، فيصرّون على تعطيلها بأحقيَّة امتلاك فيتوات أقلوية غير قانونية، ليحولوا هذه الديموقراطية إلى أولغارشية يحكمها السلاح غير الشرعي. على الرئيس أن يكون رئيس تحدٍّ. هو المدافع عن الدولة وسيادتها وحقوقها، وبالتالي عليه أن يتحدّى كل فرد أو جماعة أو حزب... يحاول تعطيل دور الدولة ويحاول مقاسمتها أو اختزال دورها، وإلّا لا معنى لرئاسته. هذا التحدي يمارسه باسم القانون والدستور، وإلّا اعتُبِر متخاذلاً غير جدير بحمل الأمانة. نريد رئيساً سياسيَّاً لأنّ مواقف الرجل الذي يمارس السياسة من الأزمات السياسية واضحة؛ وعلى هذا الأساس يتم انتخابه. أمّا الذين، من غير السياسيين، الراغبين في الوصول إلى قصر بعبدا، فعليهم أن يعلنوا بصراحة عن مواقفهم من الأزمة السياسية الحالية التي تضرب لبنان؛ بعدها يمكن اعتبارهم من المرشحين الذين يريدون إيجاد حلٍّ للأزمة وليس التعايش معها؛ عندها لا يجوز استبعاد ترشُّحهم وانتخابهم. فالمرشح الغامض في المواقف، لا يمكنه مواجهة الأزمة؛ والمرشح الذي يكتفي عادة بـ»فرفكة» يديه، يبقى من أخطر الرؤساء على الجمهورية؛ والرئيس التوافقي يعني استكمالاً للإنهيار الحاصل وإمعاناً في نهب الدولة وانهيارها.

الديموقراطيات العريقة هي أعمال تحدٍّ يومي. مثلاً، يترشّح للرئاسة في فرنسا عشرات السياسيين، في تحدٍّ شرس وواسع بين الجميع في الدورة الأولى. بعدها تتحول المعركة في الدورة الثانية إلى مواجهة بين المرشحين الأقوى، ليتحالف فيها المتنافسون. هذه هي ديموقراطية التحدي؛ فلماذا لا نذهب إلى هكذا نوع من التحدي في المجلس النيابي؟ أمّا أن يستمر الوضع كما هو عليه من الشغور والفراغ بسبب سلاح «حزب الله»، فهذا يعني أنّ النظام في لبنان لم يعد ديموقراطياً، إنما هو أوليغارشي تتحكم فيه الأقلية، التي تحمل السلاح، بالأكثرية. فـ»الديموقراطية لا يمكن تصحيح مسارها بالسلاح إنما بالديموقراطية.

الدولة هي المسؤولة عن إعادة التوازن الذي كسره «حزب الله» في لبنان بقوة السلاح غير الشرعي؛ هذا التوازن لا يمكن للدولة تحقيقه إلّا برئيس سياسي وسيادي بامتياز. وإحجام الدولة أو فشلها في إعادة التوازن، قد يدفع ببقية المكوّنات اللبنانية إلى البحث عن طرق للتحرر من هيمنة السلاح غير الشرعي؛ وقد بدأ الحديث يتصاعد في الكواليس عن كثير من الحلول. فهل يعي الممانعون خطورة الوضع؟

(*) عميد ركن متقاعد