طانيوس شهوان

تعددية لبنان عصيّة على التدجين

3 تشرين الثاني 2022

02 : 00

مع نهاية الحرب العالمية الثانية إنفرط عقد الحلفاء الاقوياء، الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى، بعد هزيمة "النازية" و"الفاشية" الاوروبيتين والانتصار عليهما. وكانت أبرز أسباب إنفراط عقد التحالف التعارض القيمي بين نظرة الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إلى العالم وقواعد التأثير فيه واستثمار الانتصار الكبير في نظم العلاقات الدولية في فترة ما بعد إنتهاء الحرب.

فالرؤية الأميركية لدور القوى الكبرى في العالم في فترة ما بعد الحرب، والمتعارضة مع رؤية الاتحاد السوفياتي اليه، منعت القطب الأميركي من قبول إعتماد "مناطق التأثير والنفوذ"، التي قرر الاتحاد السوفياتي اعتمادها في إطار العالم الشيوعي الناشئ حديثاً، والمتعارض، وفق المنطق الأميركي، مع حق الشعوب في تقرير مصيرها...

أنتج هذا التعارض الحرب الباردة بين القطبين العالميين فخضعت العلاقات الدولية لاتجاهين متعارضين وانقسم العالم إلى معسكرين. فنشأت في إطار الاتحاد السوفياتي "الديمقراطيات الشعبية" التي انتظمت في إطار إتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، فيما نشأت في المقابل مجموعة من الدول، ذات الهوى الغربي أو المؤيدة له، والتي التحقت بملء حريتها بالمنظومة الغربية، بسياستها وبثقافتها وباقتصادياتها. المنظومة الاولى، على الرغم من كونها مسماة "شعبية وديمقراطية"، لم تكن لا هذه ولا تلك. فيما كانت، الجمهوريات الأخرى، المتناقضة افتراضياً مع البلدان الديمقراطية والشعبية، والمعتبرة من قبل هؤلاء لا شعبية ولا ديمقراطية، الأكثر شعبية وديمقراطية.

فما هي سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" وعلى ماذا قامت وارتكزت؟

سياسة مناطق النفوذ والتأثير قديمة قدم العلاقات الدولية التي قامت منذ نشؤ الدول والمتحدات السياسية التي تفاعلت في ما بينها في مجالات جغرافية متنوعة على مدى اتساع الحضور الانساني في العالم قاطبة. لم يكن الاتحاد السوفياتي أول من مارس هذه السياسية على المستوى الدولي غير أنّ العودة إلى الممارسة السوفياتية لهذا المفهوم أعطاه مداه الأقصى بحيث جعل تقييمه وملاحظته أكثر موضوعية وصوابية.

كذلك يبدو الاتعاظ من التجربة السوفياتية الجاثمة للعيان أكثر نفعاً لكون هذه التجربة انتهت وأنهت معها مسيرة سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" في تجلياتها القصوى وبخاصة ونحن ننتقل من عالم أحادي القطبية إلى عالم تتمخض فيه قطبيات سياسية جديدة وناشئة إن على المستوى الاقليمي وإن على المستوى الدولي.

تقوم سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" على مبادرة دولة معينة، ذات سيادة وقدرات سياسية وعسكرية وإقتصادية وثقافية عالية، إلى الفعل في دولة معينة أو في مجموعة من الدول، أقل منها قدراً وقدرة، والتأثير فيها وعلى سياساتها الخارجية والداخلية على السواء وتطويع كل ذلك في سياق مصالح الدولة ذات السيادة تلك. فينشأ عن ذلك دولة قاطرة ودول مقطورة، دولة كوكبية مركزية ودول كوكبية ثانوية ملحقة، تدور في مجال الدولة القطبية المركزية وفلكها ووفق مسارات ومدارات تضبطها قدرة الجذب والربط التي تمارسها الدولة الكوكبية المركزية.

وتدلّل تجربة الاتحاد السوفياتي إلى أنّ "الديمقراطيات الشعبية" التي أنشأها كانت فارغة من أي مضمون سياسي إلاّ من وظيفة تحقيق "مصالح المشروع الايديولوجي" الذي جنّدها له. فبعدما سيطر الاتحاد السوفياتي عليها تدريجياً طبّق فيها التأميم الجماعي للأراضي، وتأميم الشركات، وما إلى سوى ذلك. وأنشأ عنوة عن تلك البلدان مجلس التعاون الاقتصادي (COMECON)، عام 1949 وحلف وارسو في العام 1955.

وأحكمت المنظومة السوفياتية ذات التوجهات الأممية السيطرة على تلك الدول من خلال أنظمة شمولية اعتمدت عمليات التطهير والإعدام الرهيبة وقمع الحريات وما إلى ذلك. وتظهّرت عمليات القمع من خلال القضاء على انتفاضة عمال برلين الشرقية عام 1953، وسحق الثورة المجرية في العام 1956، والإجهاز على الحركة الاصلاحية التشيكوسلوفاكية في العام 1968، وما عرف بـ"ربيع براغ" الداعي إلى "إشتراكية ذات وجه إنساني"، والتصدي لحركة ليخ فاليشا في بولونيا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي.

ما معنى استذكار كل تلك المرحلة من الحرب الباردة ومن العلاقات الدولية؟

إن ما تسعى إيران، الثورة الاسلامية ومندرجاتها، الى فعله في منظقة الشرق الاوسط منذ العام 1979 إلى يومنا هذا يندرج في سياق نظرة أممية للعلاقات الدولية على المستوى الاقليمي والدولي. فمبدأ تصدير الثورة الايرانية يماثل مبدأ نشر الأمميّة السوفياتية، وسياسة "مناطق النفوذ والتأثير" التي تمارسها إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين هي عينها سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" التي مارسها الاتحاد السوفياتي على مدى أربعة عقود ونيّف في بلدان أوروبا الشرقية وغيرها؛ وحركات الاعتراض والتصدي لوضع اليد الايرانية على البلدان الواقعة تحت نفوذها وتأثيرها تتشابه مع حركات الاعتراض التي تصدت لهيمنة الاتحاد السوفياتي على بلدان المنظومة السوفياتية؛ ومناهج السيطرة التي تمارسها الثورة الايرانية، العسكرية والاقتصادية والثقافية، متشابهة إلى حد بعيد مع مناهج السيطرة التي مارسها الاتحاد السوفياتي في بلدان العالم الشيوعي؛ والأكثر إيلاماً أنّ نتائج تطبيق سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" الايرانية على الدول الواقعة المذكورة أعلاه، ومن بينها لبنان، كارثية على كل المستويات وأدّت إلى تخلّف هذه الدول وخروجها من سياق الترقي العام، شأنها شأن بلدان أوروبا الشرقية الخارجة من خلف الجدار الحديدي في تسعينات القرن الماضي.

وتبقى الاسئلة الكبرى التي تحتاج إلى أجوبة قاطعة: هل تقبل إدارة بايدن في العام 2022 ما رفضته إدارة روزفلت في العام 1945؟ هل تقبل الولايات المتحدة الأميركية في القرن الواحد والعشرين إعتماد إيران سياسة "مناطق النفوذ والتأثير" فيما رفضت أن يمارسها الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين وأدّت إلى الحرب الباردة؟ وهل يفقد لبنان قدرته على مواجهة هذا المشروع المتهالك أم تتيح له طبيعته التعددية الافلات من براثن سياسات التسطيح وفرض التماثل والإلغاء؟

أيّاً يكن قرار الإدارة الأميركية، القناعة الثابتة أنّ تعددية لبنان عصيّة على التدجين.



*باحث