منير يونس

صنّفت الودائع مؤهلة/غير مؤهلة... بدلاً من مشروعة/غير مشروعة

خطط ميقاتي - الشامي - سلامة تقفز فوق المساءلة والمحاسبة

11 تشرين الثاني 2022

02 : 00

المودعون يتحمّلون الهيركات بإحساس بالغ بالظلم!

بات واضحاً أنه ليس في قاموس الخطط الحكومية المطروحة لمعالجة الأزمة المصرفية، أي حيز للمحاسبة والمساءلة. ففي ما بات يُسمّى «خطط ميقاتي - الشامي ـ سلامة» بنود كثيرة، جلّ همها تخفيف أعباء الخسائر التي تقدر حالياً بأكثر من 73 مليار دولار (وتزيد يومياً).

ورد في الخطة المذكورة، وتحديداً في مشروع قانون اعادة التوازن المالي، تصنيف للودائع المؤهلة مقابل أخرى غير مؤهلة. والأخيرة كما شرحها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي في أكثر من مناسبة، ووردت نصاً في المشروع المذكور، هي تلك التي حولت الى عملات أجنبية بعد تاريخ 17 تشرين الاول 2019، وفقاً لسعر صرف تعامل مصرف لبنان مع المصارف (أي 1507.5 ليرات للدولار الأميركي الواحد أو ما يوازيه بالعملات الأجنبية الأخرى). كما تعتبر بحكم الودائع غير المؤهلة جميع العمليات او الأدوات التي يكون مصدرها أموالاً غير مؤهلة (تحاويل مصرفية، شيكات، أو غيرها من العمليات والأدوات...).

وفي الخطة أيضا تحويل الودائع غير المؤهلة، لدى المصارف القابلة للاستمرار، الى الليرة اللبنانية (ليلرة) على اساس سعر صرف أقل من سعر منصة صيرفة. ذلك وفقا لآلية ومعايير موحدة تحددها الهيئة المصرفية العليا بصفتها الهيئة المختصة بإعادة هيكلة المصارف في لبنان، وتراعى في هذا الشأن السياسة النقدية التي يقررها المجلس المركزي لمصرف لبنان.



ميقاتي حاول التقريب بين وجهات نظر الشامي وسلامة... وينجح



الرقم ليس محدداً بدقة

ليس هناك رقم نهائي لقيمة تلك الودائع التي صنفوها «غير مؤهلة»، إذ تراوح التقديرات بين 15 و20 مليار دولار. وكان لزاماً على مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف اعلان ذلك الرقم على وجه الدقة. لكن كما معظم الاجراءات المتخذة على الصعيدين النقدي والمصرفي تبقى فيها قطب مخفية يتحكم باستخدامها أولو الأمر، وعلى رأسهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في ظل صمت مريب للجنة الرقابة على المصارف. وفي تلك المبالغ الضخمة حالات كثيرة متشابهة، وأخرى مختلفة سواء بالقيمة أو بالغرض من التحويل من الليرة الى الدولار أو بهوية العميل وغاياته.

مثال متقاعد مسكين

لنأخذ مثلاً موظفاً متقاعداً حديثاً وصله مبلغ نهاية الخدمة بالليرة بواقع 150 مليون ليرة، أي 100 الف دولار بسعر صرف الدولار الرسمي. طلب من مصرفه التحويل الى الدولار، وكان له ذلك بعد موافقة ادارة البنك ومصرف لبنان بطبيعة الحال. يجد هذا المتقاعد وديعته الآن غير مؤهلة على اكثر من صعيد، لا سيما أن حماية المبلغ حتى 100 الف دولار لا تشمله. وما سيحصل عليه بالليرة (خلال سنوات) قد لا يساوي ربع أو ثلث قيمة مبلغه الأصلي وبالليرة المعرضة للتراجع في قيمتها أكثر.

كان باستطاعة هذ المتقاعد أن يسحب وديعته آنذاك، وتحويلها الى الدولار في السوق السوداء بخسائر اقل بكثير من الخسائر التي سيتعرض لها بحسب خطة ميقاتي - الشامي. كما كان باستطاعته سحبها لشراء أصل عقاري أو ذهب أو أي اصل آخر لا يخسر كما تريد الخطة تخسيره.





مسؤولية مصرف لبنان والمصارف

غداة اندلاع الأزمة، كان رياض سلامة يظهر الكثير من برودة الأعصاب. ويصر على ان الأوضاع النقدية والمصرفية تحت السيطرة، وان ربط الليرة بالدولار مستمر. وثمة من صدق سلامة ليتصرف على هدى ما كان يبثه «الحاكم» من اطمئنان وخير عميم !

الى ذلك، فان المصرف الذي سمح بتحويل المبلغ، مسجلاً في حساب المتقاعد المذكور مبلغ 100 الف دولار، مسؤول بالدرجة الأولى ايضاً. إذ تبين انه باع العميل دولارات لم تكن موجودة بالأساس. يشبه ذلك جرائم تحصل في الأسواق المالية وتسمى «البيع على المكشوف». فاذا بالخطة تعفي البنك من تلك المسؤولية (التي ترقى إلى جريمة) لتضعها على المتقاعد المسكين الذي لا يلوي على شيء حالياً، وهو في ارذل العمر في بلد انهارت خدماته الأساسية، وباتت التغطيات الصحية العامة فيه هزيلة.



سعادة الشامي يقترب كثيراً بطريقة التفكير بالحلول من رياض سلامة



في الإتفاق بنود للمحاسبة

كان حرياً بالشامي قراءة النص الذي أعده بنفسه مع صندوق النقد الدولي. خصوصاً البند المتعلق بالتدقيق في بنية الودائع، وبند كشف الجرائم المالية والسعي لاسترداد الاصول المنهوبة. وفي هذا السياق، كان يمكن للشامي تصنيف الودائع بين مشروعة وغير مشروعة ( لا بين مؤهلة وغير مؤهلة).

ان ربط البندين المذكورين يفتح باباً واسعاً للمساءلة والمحاسبة. ويساعد في تخفيض أعباء الخسائر عبر شطب ودائع طائلة لا مصادر تشغيلية واضحة لها ولا هي نتاج اعمال مشروعة، ولا يمكن لأصحابها تبرير تراكمها بمئات الملايين.

تبريرات الشامي... إستسهال

فالشامي، عندما يسأل عن تبريرات»المؤهلة وغير المؤهلة» يشير الى انها تساعده على تخفيض الخسائر. فأيهما أعدل: ظلم متقاعد مسكين أم شطب وديعة فاسد؟؟ فهناك احتمال كبير لوجود ودائع تجمعت بالفساد واستخدام النفوذ والرشاوى والصفقات المشبوهة والتهرب الضريبي، والمحسوبية والعطاءات العامة التي استولى عليها هذا وذاك من المقاولين والموردين المحسوبين على السياسيين المتسلطين. فضلا عن ودائع اتت من الخارج طمعاً بالتستر بلحاف السرية المصرفية اللبنانية. كما أن بين تبريرات الشامي لتصنيف المؤهلة وغير المؤهلة أن هناك تعاميم حالياً تعتمد تصنيفات كهذه. ففي الوقت الذي فيه شبه اجماع من القانونيين واصحاب الحقوق على ان تعاميم مصرف لبنان الخاصة بالسحوبات غير قانونية وفيها ظلم كبير للمودعين، يأتي سعادة الشامي ليتكئ على تلك التعاميم ليبرر ما يريد تبريره ضارباً بعرض الحائط رأي أصحاب الحقوق.

مثال وديعة مشبوهة

ونضرب مثالاً على صعيد المال المشبوه الذي لا يقرب صوبه الشامي: هناك وديعة لزعيم من اقليم انفصالي في احدى الدول العربية بنحو مليار دولار، هي نتاج شبهات عمولات وفق تقارير مستقلة عن مرحلة سادت فيها عمولات الصفقات النفطية هناك. فهذه الوديعة مؤهلة ويدخل استردادها، بالنسبة للشامي، في عداد المستفيدين من صندوق استرداد الودائع (كما جاء في مشروع قانون اعادة التوازن المالي) او تحويلها الى اسهم في المصارف... وما شاكل من حلول لا تقترب من قريب او بعيد من البحث عما اذا كان المليار دولار حصيلة اعمال شرعية أم غير شرعية.

20 - 22 مليار دولار لغير المقيمين

في اجمالي الودائع 20 إلى 22 مليار دولار ودائع مصنفة لغير المقيمين، ومنها الكثير لعرب وأجانب وجدوا ضالتهم في لبنان لسببين. الأول السرية المصرفية التي لا يجدون مثلها في بلدانهم، والثاني اقتناص فرص الفوائد العالية التي كانت احد أبرز اسباب الأزمة الى جانب تثبيت سعر الصرف وفساد الانفاق العام. فلماذا يدخل مبلغ الـ 20 مليار دولار لغير المقيمين في عداد الودائع المؤهلة، وبالتالي في عداد المستفيدين من صندوق استرداد الودائع؟ مبلغ بهذا الحجم يغير معادلات كثيرة، سواء في ملكية مصارف لبنان اذا تحول جزء منها الى اسهم، او انه سيستفيد من بنود في كيفية الاسترداد المقترحة، وابرزها شمول تمويل الصندوق على مبالغ تخصصها الدولة من بعض الايرادات المستقبلية اذا توافرت جملة شروط. والأنكى، أن مشروع اعادة التوازن المالي، الآتي على ذكر صندوق الاسترداد، نص على امكانية اصدار اوراق مالية او سندات تمثل حقوقاً مالية. فاذا تعلق الأمر بسندات فانه دين في رقبة الدولة الى ما شاء الله، في الوقت الذي تحاول فيه الدولة تخفيف عبء الدين العام وتخفيضه الى المستوى المستدام، اي القابل للرد مع فوائده من دون ارهاق الدولة وميزانيتها السنوية.

أرباح ملاك المصارف خارج أي مراجعة

تغيب عن الخطط الحكومية مسألة استرداد ولو جزء من الأرباح المصرفية التي وزعت بالمليارات على المساهمين. ذلك رغم الاعتراف بأن سياسة الفوائد المرتفعة كانت خاطئة، وأورثت ديناً عاماً هائلاً تحول الى كارثة حلت بكامل شرائح المجتمع. ففوائد ذلك الدين منذ بداية التسعينات بلغت نحو 88 مليار دولار، كان للمصارف منها نصيب الأسد. واستخدمتها في رفع رساميلها من أقل من 300 مليون دولار قبل 30 سنة الى 22 ملياراً عشية الأزمة، إضافة الى التوزيعات المجزية على المساهمين.

واللافت أيضاً أن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي المولج التفكير بحلول للأزمة وخسائرها لا يأتي على ذكر الأرباح التي تولدت من الهندسات المالية التي اجراها مصرف لبنان في 2016 والسنوات اللاحقة، وتقدر ارباحها بنحو 12 مليار دولار معظمها من المال العام.

كما لا يقترب الشامي من القانون 2/67 الذي يفترض أن يستخدم لتحميل المصارف المسؤوليات وبالتالي فتح باب للمحاسبة والمساءلة.

على صعيد آخر، وفي قراءة لمشروع اعادة هيكلة المصارف الذي اعده مصرف لبنان مع لجنة الرقابة على المصارف، نجد بصمات واضحة لحاكم البنك المركزي على أكثر من صعيد. وبين تلك البصمات ما تعلق ببنود تتصل بقوانين واجراءات وتعاميم سابقة مرعية الاجراء. فالحاكم يريد اعادة الهيكلة مستعيناً برزمة من القوانين التي يعرفها جيداً ويعرف مآلاتها. في المقابل، وفي قراءة لمشروع القانون يغيب كلياً ايضاً ذكر القانون 2/67 الذي ينظم مسألة الافلاس او التعثر المصرفي. والأهم في ذلك القانون انه، وفي البحث عن المسؤوليات، قد يصل الأمر الى التحفظ على اموال مساهمي المصارف وكبار التنفيذيين فيها ومراقبي حساباتها والمفوضين بالتوقيع لديها... لكن كل ذلك ليس في قاموسي الشامي وسلامة!


MISS 3