عيسى مخلوف

الزمن المُستَعاد

12 تشرين الثاني 2022

02 : 01

إحدى صالات المعرض في "مكتبة فرنسا الوطنيّة"

قلّما حظيَ كاتب بالاهتمام الذي يحظى به اليوم الكاتب الفرنسي مارسيل بروست في الذكرى المئويّة لوفاته (18 تشرين الثاني 1922)، وهذا ما يستدعي منّا الوقوف، وللمرّة الثانية هذا العام، عند هذه الظاهرة الثقافية النادرة، خصوصاً مع صدور عشرات الكتب والوثائق والأفلام والمعارض، ومنها المعرض المُقام حالياً في "مكتبة فرنسا الوطنية" تحت عنوان: "بناءُ النتاج"، والمقصود بالنتاج، هنا، هو "البحث عن الزمن المفقود"، انطلاقاً من الأسئلة الآتية: كيف كُتبَ هذا الكتاب؟ كيف تخيّله كاتبُه وكيف أَنجزه ليصبح أحد أشهر الأعمال الأدبيّة العالميّة؟

يروي المعرض حكاية كتاب بصورة فريدة يمكن تطبيقها على كتب أخرى تركت أثرها العميق في تاريخ الأدب. ويتضمّن، بالإضافة إلى الصور واللوحات الفنّيّة والأفلام الوثائقيّة، كتباً ومخطوطات ومذكّرات ومقالات نقديّة ودفاتر كُتبت عليها ملاحظات تحضيريّة، وكلّها يبلغ زهاء سبعة آلاف صفحة، تُبرز المحطّات الأساسيّة لصياغة هذا الكتاب الشاسع والمتعدّد، وصولاً إلى صيغته النهائيّة، وثمّة بين المعروضات ما يُعرَض للمرّة الأولى. من خلال هذا الكتاب، يروي المعرض أيضاً سيرة الكاتب الذي رفضت دار "غاليمار" نَشرَ الجزء الأوّل من تحفته الأدبيّة لتعود وتتبنّاه بدءاً من الجزء الثاني، وحتّى بعد وفاته، مع نشر "الزمن المُستعاد" في العام 1927. يكشف المعرض أيضاً، وكذلك المؤلّفات التي تواكبه، الثقافة الموسوعيّة التي كان يتمتّع بها بروست، ومعرفته العميقة، ليس فقط بأحوال المجتمع البورجوازي الذي عاش فيه، وإنما أيضاً بالموسيقى والعلوم الإنسانية والفنون التشكيليّة، ما جعل كتابه كأنّه متحف كبير لأعمال فنّيّة مكرّسة لها أثرها في تاريخ الفنّ الغربي.

تأتي الإضاءة على بروست الآن، لتُظهر بصورة أعمق، ووفق معطيات علميّة جديدة، مكوّنات نتاج أديب هو أحد أكثر الأدباء الذين طبعوا المشهد الثقافي الفرنسي. وتقتضي الإشارة إلى أنّ "الأنا" الحاضرة بقوّة في نتاجه لا تقتصر على "أناه" الشخصيّة فحسب، ولا على شخص دون سواه، بل تذهب أبعد من ذلك لتشمل الإنسان ككلّ. فحديثه عن المصير الإنساني وقسوته، وعن "الجانب الحادّ والمروّع في الإنسان"، يجعل الكاتب يرتفع فوق نفسه، ويتجاوزها، ويتكلّم باسمنا جميعاً، ليصل أخيراً إلى القول إنّنا وحيدون، و"كلّ فرد منّا هو، في النهاية، شخص وحيد".

في مكتبة فرنسا الوطنيّة، وأمام مرجعيّات لا تُحصى، متعلّقة بالبحث عن الزمن المفقود، نخال أنفسنا أنّنا في مكتبة داخل المكتبة التي تُعَدّ إحدى أهمّ وأكبر مكتبات العالم. في قلب هذه المتاهة التي لا تنتهي، نعثر على أعمال بحّاثة فكّكوا نتاج بروست بأكمله، شكلاً ومضموناً، ومنهم من أحصى كلماته ورسم خريطة العلاقات بينها. وثمّة من رصد عباراته الطويلة لنعرف أنّ العبارة الأطول بلغت 931 كلمة، ما جعل الكتاب المتشعّب أشبه بخيوط سجّادة هائلة تتداخل خيوطها الملوَّنة بتناغم مذهل، وفق إيقاعات حميمة يندر وجودها في عالم الأدب.



صفحة مخطوطة من "البحث عن الزمن المفقود"



"المجلة الفرنسية الجديدة" التي اعتنت بجمع مخطوطات بروست الأخيرة بعد وفاته، وتهيئتها للنشر مع أخيه روبير، كانت قد تأسّست في العام 1908. إنها مجلّة بروست المفضّلة، وكان ينظر إليها بصفتها المجلة الجديرة بنشر كتاباته ونصوصه. وهي لا تزال حتّى الآن وفيّة بالوعد. وفي عددها الصادر هذا الخريف، تخصّص الجزء الأكبر منها للحديث عن بروست في ملفّ شارك فيه عدد كبير من المتخصّصين في سيرته ونتاجه.

بإيلاء مارسيل بروست هذا الاهتمام الكبير، وبالصيغة العلميّة التي يجري فيها، هناك بعض العزاء، خصوصاً في مرحلة تضيع فيها، أكثر فأكثر، المعايير النقدية والاعتبارات الأدبية. أَن يكون التركيز على الكتاب بهذا الشكل، إنّما هو قيمة له ولكاتبه وللأدب على العموم. المعرض يروي سيرة نتاج، كما ذكرنا، حتّى ليبدو كأنّ الكاتب، أيّ كاتب كان، يأتي إلى هذا العالم ليكتب. ثمّ يرحل وتبقى مؤلّفاته. دائماً كان اسم النتاج سابقآً لاسم الكاتب، قبل أن يصبح اسم الكاتب، في العقود الأخيرة، وفي الغالب، هو السابق وهو الأهمّ. في زمن تسليع كلّ شيء، أصبح الترويج لإسم الكاتب أكثر أهميّة من النتاج نفسه، ليس في الأدب وحده، بل في كافة الحقول الإبداعيّة. يقول دوني ديدرو في رسالة بعث بها إلى فولتير في التاسع عشر من شهر شباط من العام 1758: "يأتي وقت يختلط فيه الرماد كلّه معاً، لذا، ما الذي يهمّني إن كنتُ فولتير أو ديدرو، وإن كان الذي سيبقى أجزاء من كلامك أو من كلامي؟ علينا أن نعمل وأن يكون وجودنا مفيداً.


MISS 3