محمد علي مقلد

صراع سياسي أم بين حضارتيْن وثقافتيْن؟

12 تشرين الثاني 2022

02 : 00

«انطلقت الحركة ثم توقفت في العام ذاته. بلغت ذروتها في 14 آذار 2005، ثم بدأت بالهبوط، ظنَنا أن بإمكاننا من خلال خطاب عالي السقف أن نقلب العالم . للأسف، لا نستطيع إعادة كتابة التاريخ، ولا استعادة حركة 14 آذار». هذا قول لوليد جنبلاط تعليقاً على الحنين إلى تلك اللحظة الجميلة من مسيرة الوحدة الوطنية المبنية على مشاعر العداء للخارج لا على برنامج لإعادة بناء الوطن والدولة.

جمهور 14 آذار كان صادق الحدس، أما قيادته فأصدرت وثيقة عام 2008، بخلفيات فكرية معادية لروح الانتفاضة. لم يتضمن النص برنامجاً يعالج أزمتها، بقدر ما كان مليئاً بالشكوى وباستحالة بعثها من رماد أخطائها القاتلة. قالت الوثيقة «إن الانقسام في لبنان ليس من طبيعة طائفية ولا سياسية. هو خلاف ثقافي وانقسام بين فسطاطين، بين ثقافة السلام والوصل والعيش معاً وثقافة العنف والفصل».

مع أنها تعرضت للعنف والاغتيالات، إلا أنّ مقتلها يكمن في غياب خطتها لإعادة البناء لا في قوة خصومها. لاحظ بعض المحبين «أنّ غالبية الشرائح الشعبية التي نزلت إلى الشوارع عام 2019 كانت قد شاركت أو ناصرت ثورة 14 آذار 2005، مطالبة بالعدالة والسيادة». قد تكون الملاحظة صحيحة وقد لا تكون، والأكيد أنّ مفهوم السيادة في انتفاضة الاستقلال غيره في ثورة 17 تشرين. إذا كانت سيادة الدولة هي سيادة القانون على الحدود وداخل الحدود فذلك يعني أنّ الطائفية والمحاصصة وخرق الدستور انتهاك للسيادة، لم تقصر قوى 14 آذار في الانغماس فيه كله، وأحجمت عن النقد الذاتي.

كلام كثير قيل، لكنّ النقد لم يجد آذاناً صاغية. بدأ من لحظة تشييع جنازة رفيق الحريري ولم ينته في 17 تشرين 2019، وشارك فيه صحافيون متعاطفون أو خصوم. الصحافي إيلي الحاج رأى «أن 14 آذار دخلت التاريخ حين راحت تبتعد أكثر فأكثرعن نقطة لقاء جامع»، والصحافي أيمن شروف رأى أنّها راحت «تمارس السياسة كجمعية أهلية»، أي حين لم يعد لديها برنامج سياسي موحد، فيما رأت مي شدياق أنّ «إخوة اضاعوا الطريق، وحسابات ضيقة حالت دون تحقيق الاستقلال الثاني وأن فشل الرؤية هو سبب الخروج من المشهد». فيما رأت نسرين مرعب أنّ «لا شيء مطلوباً سوى إطلاق رصاصة الرحمة ودفنها، والبحث عن خطة جديدة ومعالم ثورة جديدة».

على جبهة الخصوم، المنهج ذاته في نقد الوثيقة. سعدالله مزرعاني قام برحلة حول العالم وصراعاته وانقساماته وتحالفاته. قال في نقده، كأنه «ليس في المنطقة مشروع أميركي، وليس في العراق 170 ألف جندي، وليس في المنطقة صراع عربي ـ إسرائيلي، وليس في لبنان مشكلة أراض ما زالت محتلة». ولا كلمة واحدة عن العوامل الداخلية، فلا أحد قادر على مقاربتها إلا بعيون خارجية. العقل ذاته ما زال يدير معركة رئاسة الجمهورية عام 2022 بمنهج وآليات العين على الخارج.

لم نقصّر في تلبية نداءات 14 آذار لذلك كانت قراءاتنا العديدة للتجربة نوعاً من النقد الذاتي الصادق. نصوص طويلة نشرناها في كل وسائل الإعلام، كان أبرزها نقد الوثيقة بعد أسبوع على نشرها. رأينا فيها خطراً على وحدة الانتفاضة، لأنها قرأت الحدث بعين الحرب الأهلية لا بعين إعادة بناء الوطن والدولة.

الكلام عن الفسطاطين والحضارتين والثقافتين والفصل والوصل هو ذاته ما كانت تسميه إذاعة لندن الحرب بين المسلمين والمسيحيين، وهو ذاته الانقسام بين الجبهة اللبنانية وتحالفاتها حتى «مع الشيطان» ضد الوجود الفلسطيني المسلح، والحركة الوطنية وتحالفاتها مع «ملائكة» التحرر الوطني العربي والفلسطيني ضد الفسطاط الآخر.

المعركة ليست معركة ثقافية بل سياسية بامتياز. هي بين الدعوة إلى قيام دولة القانون والمؤسسات والدعوات إلى الفدرالية أو ولاية الفقيه. بين الديمقراطية والاستبداد. بين حماية التنوع وتنظيم الاختلاف وبين استبداد سياسي وديني وحزبي يلغي التنوع ويفجر الاختلافات.