طانيوس شهوان

النظرية الأزهرية لبنانية بامتياز

16 تشرين الثاني 2022

02 : 00

طانيوس شهوان

يتّصف العيش المشترك اللبناني بما لا يتّصف به أيّ عيش تعدّدي في أي مجتمع من مجتمعات العالم المعروفة. وقد كثرت في السنوات الاخيرة حملات التجني على التعددية اللبنانية باعتبارها منتجاً من منتجات الرومانسية السياسية اللبنانية التي لا تستحق كل هذا الإطراء، وأنّ التغنّي بفرادتها هو إطناب في غير محلّه. ويضيف أصحاب هذا الرأي على مقولاتهم هذه أنّ التعدّد الاجتماعي معمّم على مجتمعات العالم قاطبة، وأنّ لبنان لا يتفرّد في هذا النسق الاجتماعي والتعددي، وأنّ هذه الميّزة اللبنانية لم تعد قيمة مضافة يحق للبنان وللبنانيين التغنّي بها.

فما هي فرادة الصيغة اللبنانية والعيش المشترك الإسلامي المسيحي في لبنان؟ وهل هما يتماثلان فعلاً مع كل أنواع التعدّد في العالم؟ وهل نبالغ في الحديث عن فرادتهما وأهميتهما؟

شاءت الظروف أن تتزامن هذه الحملة الشعواء على التعدّد اللبناني مع الزيارات المتواترة التي قام بها البابا فرنسيس الى منطقة الشرق الاوسط، والخليج والمغرب العربيين؛ فتأتي زيارة البحرين الخامسة في سلسلة زياراته الى بلدان عربية بدأت بمصر في العام 2017، فالإمارات العربية المتحدة والمغرب في العام 2019، فالعراق في العام 2021. وقد أفضت هذه الزيارات الى إنتاج مجموعة من الوثائق والمواقف المتعدّدة في شأن الحوار الإسلامي المسيحي والقضايا والتحديات المشتركة المتّصلة بمستقبل البشرية وإلامَ هي ذاهبة اليه.

غير أنّ اللافت في زيارة البحرين كانت «نظرية التعارف الحضاري» التي عرض لها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف ورئيس مجلس حكماء المسلمين، في اختتام «مُلْتقَى الشَّرق والغرب من أجلِ التعايش الإنساني»، كنقيضة لنظرية «صراع الحضارات»؛ فالأولى، بحسب سماحته، «شرقية إسلامية»، فيما الثانية، وهي نقيضتها، «غربية». وأردف مؤصّلاً أنّ هذه النظرية «تستندُ (...) إلى كلمةِ «التَّعارُف» الواردة في القرآنِ الكريم، كما تستندُ في إطارِها الكُلِّي إلى أُصُولٍ قُرآنيةٍ ثلاثة:

الأصلُ الأوَّل: هو أنَّ اللهَ تعالى خَلَقَ عبادَه مُختلِفينَ في العِرْقِ واللَّونِ واللُّغةِ والدِّين، وخصائص أخرى غيرها، وأنَّهم سيبقون مختلفينَ في هذه الخصائص إلى آخرِ لحظةٍ في عُمْرِ هذا الكون...

الأصْلُ الثاني: هو أنَّه تعالى كما خَلَــقَ الناس مختلفين؛ فلا مَفرَّ من أن يخلقهم أحراراً في ما يعتقدون، وإلَّا لما تحقَّق الاختلاف الذي جعله سُنَّته في خَلْقِه...

الأصْلُ الثَّالث: إذا كان القرآن الكريم يُقرِّرُ الحقيقتَين السَّابقتَين، وهما: اختلاف الناس، وضمان حُرِّيَّاتهم في ما يعتقدون، فما هو نوع العلاقة بينهم في ما تُقرِّرُه فلسفة القرآن؟! ليس من سبيلٍ لهذه العلاقةِ إلَّا أنْ تكونَ «التعارُف»، الذي رَسَمَهُ الله تعالى إطاراً للمُعامَلات والعلاقات بين النَّاس...» (إنتهى الاستشهاد).

المقاربة الأزهرية ذات الجدّة

تأتي المقاربة الأزهرية ذات الجدّة كأول تأكيد على فرادة التعدّد اللبناني وكجواب لمنتقديه و»المستخفّين» فيه على اعتباره فاقداً لتلك الفرادة التي «أدلجها» لبنانيون فيما هي «عادية» تتماثل مع أنواع وأشكال اجتماعية أخرى من التعدّد في مجتمعات أخرى.

لا بدّ في البداية من الاقرار بأنّ المقاربة التي عرض لها الإمام الأكبر، في مضامينها وأسانيدها، تفوق كل ما قيل في الزيارات البابوية الخمس منذ العام 2017 من حيث جدّتها وفرادتها وخروجها عن المألوف؛ غير أنها تتطابق مع التجربة اللبنانية في العيش المشترك وتؤكّد فرادتها.

في الواقع، تدلّل هذه النظرية، واستناداً الى «الأصل الأول»، الى التحوّل الكبير، على مستوى أحد أعرق الصروح الفقهية والفكرية الإسلامية، عنيت به الأزهر الشريف، في مفهوم الإسلام للتعددية المجتمعية. ألم يكن هذا الموضوع إشكالياً حتى الزمن القريب في لبنان والعالم العربي؟ ألم يكن الحديث في لبنان عن التعددية الثقافية وعن الوطن التعددي خطيئة مميتة «تقوم القيامة عند ذكرها ولا تعود تقعد»؟ ألم يستثير النداء الأخير للسينودس من أجل لبنان في العام 1997 حفيظة كثيرين في تلك المرحلة لعرضه لإشكالية التعددية الثقافية ولطبيعة لبنان التعددية؟ ألم يكن الكلام عن التعدّد كافياً لاعتبار البعض أنه يدلّل الى توجّه رافعيه «التقسيمي الإنعزالي»؟

أما الحديث عن الحرية، الذي عرض له صاحب السماحة في «الأصل الثاني»، هذه الحرية المتلازمة مع التعددية التي أكّد عليها في «الأصل الأول»، فهي ما جعلت لبنان، وعلى مدى مئة عام ونيّف عرضة للإستهداف في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، ومن قبل الأنظمة الشمولية التي تحكّمت بمفاصل الحياة السياسية بعد نشوء الكيان الاسرائيلي الغاصب. فالكل دون استثناء حاول تدجين التجربة اللبنانية الديمقراطية واليتيمة في العالم العربي في تلك المرحلة، واعتبر هؤلاء أنّ آفتها الكبرى هي الحرية.

ويأتي الحديث، في «الأصل الثالث»، ليؤكّد أن العلاقة بين مختلفين أحرار لا يمكن أن تكون إلاّ «التعارف» الذي ينتج عنه «علاقة السلام بين الناس». لا بد في هذا السياق من استعراض بعضٍ من وقائع لبنانية، مجتمعية وسياسية تؤكد «صوابية» المقاربة الأزهرية في محورها الثالث. ففي لبنان الحديث، الناشئ منذ العام 1920، 1415 قرية وبلدة ومدينة مأهولة بحسب الوثائق الرسمية تتوزع كما يلي: 536 قرية وبلدة ومدينة مسيحية و532 قرية وبلدة ومدينة إسلامية و347 قرية وبلدة ومدينة مختلطة بين المسلمين والمسيحيين. وتتوزّع هذه القرى والبلدات والمدن على الجغرافيا اللبنانية من النهر الكبير شمالاً الى الناقورة جنوباً. وعلى الرغم من أعمال الفرز الأليم الذي أنتجته الحرب اللبنانية حافظت التركيبة الاجتماعية اللبنانية على تنوعها الفسيفسائي الذي عرض له أعلاه.

الدراسة المونوغرافية والديموغرافية

وتدلّل الدراسة المونوغرافية والديموغرافية لتاريخ تكوّن هذه البلدات، المختلطة وغير المختلطة، الى أنّ هذا النسيج الاجتماعي «معمّر» ويعود بعضه الى مئات السنين وبعضه الآخر الى عشرات عقودها. فماذا يعني مثلاً أن يعيش موارنة ودروز في بلدة واحدة على مدى 400 عام وأكثر؟ ألا يكون هؤلاء قد تعارفوا وتثاقفوا وعاشوا معاً مرّ الايام وحلاوتها؟ وهم، وإن تقاتلوا فقتل بعضهم بعضاَ في مراحل محددة من التاريخ، أما عادوا وتفكّروا معاً واستخلصوا عبراً من مراحل الصراع والنزاع وبنوا عليها فعقلنوا الحياة المشتركة، وهو ما نسميه العيش الواحد أو الصيغة، وعاشوا معاً في خلاصة القول «سلاماً شبه مستدام».

هل يشبه هذا التعدد المتثاقف بين مسلمين ومسيحيين، التعدّد في الخليج العربي حيث يستقبل الخليج العربي الاسلامي قرابة مليونين ونيّف من المسيحيين، الوافدين من الشرق الأقصى والعالم الغربي منذ عقود الى شبه الجزيرة العربية للعمل فيها؟ هل يشبه هذا التعدّد اللبناني التعدّد في البلدان العربية الأخرى من مثل سوريا والعراق ومصر والاردن؟ هل يشبه التعدّد اللبناني التعدّد الأوروبي حيث تستقبل أوروبا العجوز، منذ عقود معدودة، مهاجرين، من بينهم مسلمون؟

فرادة التجربة اللبنانية أنها، ومنذ نشؤ لبنان الكبير، أي منذ مئة عام ونيّف، إنتظمت حياة هذا النسيج الاجتماعي المتعدّد في إطار حدود معترف بها دولياً، وتفاعلت مكوناته في إطار دستور الدولة اللبنانية، الذي كرّس علاقة «قانونية» بين هذه المكونات الاجتماعية في إطار بلديات، واتحادات بلديات، وفي إطار قائمقاميات ومحافظات ومجالس نيابية ووزارية وزارات وقطاع عام. وكان هذا التفاعل، وعلى عكس ما كان يجري في الدول الوطنية التي نشأت في المنطقة العربية، تفاعلاً يشعر فيه المسيحيون والمسلمون بحدٍّ أدنى من النديّة. فالذين يقارنون العيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في لبنان بالعيش المشترك في سوريا والعراق ومصر وغيرها، وذلك المستجدّ في الخليج العربي وفي العالم الغربي، ويعتبرون أنّ هذا العيش المشترك فيها متماثل مع العيش المشترك في لبنان هم مخطئون.

ختاماً تتطابق المقاربة الأزهرية «التقدمية» مع التجربة اللبنانية وتؤكد على فرادتها. وإذا كان سماحة الإمام الأكبر قد اعتبر أن نظريته «شرقية إسلامية» فنحن نعتقد أنها نظرية لبنانية بامتياز، وهي درزية ومسيحية وإسلامية دون أدنى شك. وإذا كانت دوائر الحوار في العالمين الإسلامي والمسيحي تجهد لتنظيم منتديات حوارية بين قياديي الصف الأول، وهذا جيّد ومطلوب، فالتاريخ اللبناني، بشقيّه القديم والحديث، يدلّل الى انتظام منتديات حوار دهرية بين المسيحيين والدروز والمسلمين منذ مئات السنين، وهي منتديات يومية ترسّخت في الدساكر اللبنانية، وتضاهي في قيمتها منتديات الحوار العالمية.

(*) باحث


MISS 3