عندما ينبّه غبطة البطريرك بشارة الراعي، في خطبه الأسبوعية منذ فترة طويلة، إلى خطورة انعكاس الوضع الحالي في لبنان على الشراكة الوطنية، إذا ما استمر تعطيل الدولة؛ يعني أنّ الوحدة الوطنية في خطر؛ مع ما يترتب على ذلك من تداعيات استراتيجية على مستقبل هذا الكيان .
فالبطريركية المارونية لا تتناول المطبخ السياسي اليومي في لبنان، بقدر ما تتحدث عن مصير هذا الكيان الذي تأسس على مثلث الحرية والديموقراطية والحياد. وعندما يتعرّض أحد الأضلاع الثلاثة لأسس هذا الكيان للضعف أو للمصادرة، ترفع بكركي الصوت عالياً للتحذير بأن المساس بأحد هذه الأسس، يُعرّض الشراكة الوطنية للخطر. فكيف إذا كانت هذه الأسس الثلاثة اليوم تتهاوى معاً، مهددة بانهيار الكيان وانفكاك الشراكة الوطنية؟
عمليَّاً الأسس الثلاثة مهددة اليوم معاً، وعلى كل المستويات، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى اغتيال لقمان سليم. ومن قمع المواطنين والمرشحين للإنتخابات النيابية في الجنوب والبقاع وفي كل الدورات الإنتخابية؛ وصولاً إلى تعطيل المجلس النيابي لسنوات عديدة، وفرض انتخاب رئيس للجمهورية يستمد قوته من السلاح غير الشرعي، وحتى لمنع تشكيل الحكومات إلّا بشروط الحليف الملتحف بالدويلة وسلاحها، وانتهاء بخطف لبنان من حياده التاريخي ورميه في محور «الممانعة» الغريبة عن ثقافته وتاريخه. كلّ هذه الممارسات تعيها بكركي منذ سنوات، ولكنّها كانت تراهن على وعي الجماعة من بعض مكونات «الممانعة»، خصوصاً بعدما تداعت الأعمدة الأساسية الثلاثة لهذا الوطن وهو مشرف على الإنهيار.
انتفض الشعب اللبناني عام 2019 على الوضع، فتعرض للقمع والقتل؛ وبدل أن يترجم تلك الإنتفاضة عمليَّاً في الإنتخابات النيابية قبل أشهر، بشكل عقلاني منطقي يخدم المصلحة الستراتيجية العليا، تبيّن أنّ بعض ممثلي هؤلاء المنتفضين، يحملون أثقالاً تاريخية كيدية ومصالح شخصية، تحُدُّ من ارتقائهم إلى المستوى الستراتيجي لمعالجة الأزمة، وإنقاذ هذا الوطن من الضياع. وللعدالة وعدم التجنّي، يمكن القول إنّ كثيرين من النواب الذين يدّعون الإستقلالية أو يمارسونها، هم أيضاً لم يرتقوا إلى المستوى الستراتيجي الذي يعالج الأزمة الحالية.
التصدّي للمعالجة
فمع أنّ كلّ مكوّنات المعارضة مجمعون على توصيف الأخطار، وترتيبها حسب خطورتها بدءاً بالخطر الأهم من بينها كلها، لا بل مسببها أي السلاح غير الشرعي لـ»حزب الله»، وإقرارهم بذلك يومياً، إلاّ أنهم لم يتصدوا لمعالجتها بشكلٍ منطقي وعملي وديموقراطي، الذي يفرض عليهم جميعاً التخلّي، ولو موقتاً، عن الإختلافات في ما بينهم، أو مع بقية مكونات المعارضة، الأقل خطراً على الكيان، للتصدي للخطر الأهم أي تمدُّد الدويلة. وبمعنى أدق، البدء بانتخاب رئيس للجمهورية من غير صناعة محور الممانعة وحلفائه، ومن ثم التصدّي بعدها لكلِّ الأزمات الداخلية: الإقتصاد، المال، العلاقات الخارجية، حدود الدولة التهريب... وبالتالي «لاحقين» يختلفوا مع بقية المكونات؛ لأنه لا يمكن إصلاح هذه الدولة قبل انتشالها من براثن الهيمنة الإيرانية.
أمّا وقد عجزعددٌ كبير من نواب الأمة، عن الإرتقاء إلى معالجة أزمة هذا الوطن بشكلٍ منطقي، بدءاً من الخطر الأهم والداهم والمسبب، وخوفاً من الإمعان في تداعي هذا الكيان، جاءت خطابات البطريرك المحذرة من انهيار الهيكل. هنا تبرز أسئلة عديدة على ألسنة المواطنين:
السؤال الأول: هل هناك دولة أو شعب في العالم يرضى بأن يحمل أحد مكونات هذه الدولة السياسية أو المذهبية أو الحزبية... سلاحاً خارجاً عن القانون؟ طبعاً لا يوجد. فإذا قالوا للممانعة، يتكرر السؤال: ممانعة من لمن وكيف؟! وإذا تذرعوا بحجة، لم تعد تنطلي على أحد، محاربة إسرائيل كما يدّعي حاملوه؛ فإسرائيل عدوةٌ لكل الوطن وليس «للحزب» وحده، وثانياً إسرائيل تضرب «الحزب» ورعاته الإيرانيين في سوريا وصولاً إلى البوكمال على حدود العراق، من دون أيّ ردة فعلٍ لأيٍّ من «الحزب» أو رعاته، لذلك فحجة الحزب باتت سخيفة.
وإذا كان لمحاربة الإرهاب «الداعشي» كما يسوّقون، فالشعب اللبناني ليس داعشياً، والممانعة هي الني أنقذت «داعش» من الموت في جرود عرسال. لذا فالقناعة لدى كل اللبنانيين أنّ الهدف الوحيد لسلاح «الحزب» يبقى السيطرة على الساحة اللبنانية وسلخ لبنان عن هويته الجغرافية والثقافية والتاريخية.
السؤال الثاني: هل يدرك الممانعون بأنّ تعطيلهم لانتخاب الرئيس سابقاً وحاليّاً، هو إلغاء للنظام الديموقراطي؟ إذ بذلك هم يُحكِّمون الأقلية بالأغلبية بـ»أوليغارشية» تقول: إمّا أن توافقوا على رئيس من قبلنا، أو لا رئيس ولا جمهورية. فأيّ دولة ديموقراطية في العالم تمارس هذا النوع من الحكم الديكتاتوري؟
عجز البرلمان
تجاه العجز المتمادي للبرلمان اللبناني في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أخذ بعض اللبنانيين يراهنون على الخارج لإنتاج الإستحقاق؛ متناسين أنّ هذا الخارج سوف يركز على تسوية تهدف إلى منع حصول فوضى في لبنان برئيس تسووي يؤمّن الإستقرار الأمني، يدير الأزمة من دون أن يتصدّى لحلَّها؛ ما يعني تفاقم الأزمة السياسية والحياتية، واستمرار النزف الإقتصادي والمالي واستباحة الحدود... لأنّ مصلحة «الحزب» اليوم تقضي بتسوية رئاسية، يكون له فيها حصّة تخوله استخدام حق الـ»فيتو» الذي اقتطعه لنفسه في لبنان، فيخدم المشروع الاستراتيجي للدويلة وحلفائها وصولاً إلى انهيار الهيكل. لذلك فإنّ حلّ الأزمة جذريَّاً مرتبط بوعي نواب الأمة لخطورة هذه الأزمة، والبدء بمعالجتها باختيار رئيس يعاونونه على حلِّها بشكل مباشر.
أمّا الموضوع الأكثر غرابة اليوم، فهو في دعوة «حزب الله» وإصراره على التوافق على رئيس للجمهورية، ليكون له فيه الحصّة الكبرى، بعد أن عجز عن تسويق «ميشال عون ثانٍ»، ويحتفظ بـ»الفيتو» الذي يسمح له بالتحكُّم بالدولة ومستقبلها. وهنا يبرز السؤال: إذا كان «الحزب» مؤمناً بمبدأ التوافق، فهل يعتبر سطوته على الحدود البرية والبحرية والجوية، وسلاحه غير الشرعي، وسياسة لبنان الخارجية، والتهريب، و7 إيار والإغتيالات... كلها أمور، مع جوهريتها في مصير لبنان، لا تستأهل التوافق؟! طبعاً هدف «الحزب» واضح في التسلُّط على هذا الوطن، وتهجير شعبه وإفراغه من طاقاته، والإحتفاظ بذميين يشكلون له واجهة ورقة التين وصولاً إلى تغيير هويته.
تتجاذب الساحة اللبنانية منذ أكثر من عقد، سياستان: الأولى استراتيجية بعيدة المدى، ينتهجها «الحزب» ويناور بداخلها بشكل واسع وإستيعابيّ، تؤمّن له تحقيق أهدافه على المدى البعيد. والثانية تكتية يومية، أي سياسة المطبخ والنكد اليوميّ، التي لم يرتقِ أصحابها إلى مستوى الأزمة المصيرية، فلم يتحرروا من أثقال الماضي، بحيث باتوا عاجزين عن التصدي استراتيجيَّاً لهذه الأزمة؛ فتشتَّتت أصواتهم لتخدم، بشكل مباشر أو غير مباشر، الأهداف الستراتيجية للفريق الآخر.
طبعاً اللبنانيون، أو كثيرون منهم، لا يمكنهم الإستمرار في العيش في كنف دولة يديرها «الحزب» كنسخة مستحدثة عن ولاية الفقيه في إيران. لذلك بدأت الأصوات ترتفع في بكركي، وعلى لسان بعض القادة السياسيين في الإعلام، وبشكلً أعمّ في الصالونات السياسية، بأن الشراكة الوطنية في خطر. لذلك يجب التنبُّه والقول بكل بصراحة إن الشراكة الوطنية في خطر.