عبده جميل غصوب

قراءة قانونية للتعميم رقم 646 الصادر عن حاكم مصرف لبنان بتاريخ 12 تشرين الاول 2022 المتعلق بالإيفاء المسبق بعملة القرض (أهو حقيقة أم وهم؟)

1 – في 26 آب 2020 أصدر حاكم مصرف لبنان قراراً وسيطاً يحمل الرقم 13260 تضمن أنه "على المصارف والمؤسسات المالية العاملة في لبنان قبول تسديد العملاء الاقساط والدفعات المستحقة بالعملات الاجنبية الناتجة عن قروض التجزئة كافة موضوع هذه المادة، بما فيها القروض الشخصية وذلك بالليرة اللبنانية على اساس السعر المحدد لتعاملات مصرف لبنان مع المصارف ، بقيمة وسطية تبلغ 1507.5 ليرة لبنانية للدولار الاميركي الواحد، وذلك شرط:



- ان لا يكون العميل من غير المقيمين وفقا للتعريف الوارد في النصوص التنظيمية الصادرة عن مصرف لبنان.

- ان لا يكون للعميل حساب بهذه العملة الاجنبية لدى المصرف المعني، يمكن استعماله لتسديد هذه الاقساط او الدفعات.

- ان لا يتعدى مجموع القروض السكنية الممنوحة للعميل 800.000 $ ومجموع قروض التجزئة الاخرى 100.000$ ".


2 – في 12 تشرين الاول 2022 أصدر حاكم مصرف لبنان تعميما آخر، يحمل الرقم 646 جاء فيه: " استثنائيا وخلافا لاي نص تنظيمي آخر، يتم التسديد المسبق للقروض (...) بعملة القرض من دون اخذ موافقة مصرف لبنان، في ما خص القروض التالية:

- القروض السكنية كافة.

- القروض التي تمنح لمتابعة الدراسة في مؤسسة من مؤسسات التعليم العالي.

- القروض البيئية التي لا تتجاوز قيمة كل منها ثلاثين مليون ليرة لبنانية.

- لا يتم تحميل العميل الغرامات المنصوص عنها في هذا القرار، والناتجة عن التسديد المسبق لرصيد قرضه السكني، قبل مرور سبع سنوات على وضعه موضع التنفيذ ".


يطرح هذان التعميمان عدة نقاط قانونية، هي التالية:

- هل ان التعميم رقم 646 تاريخ 12 تشرين الاول 2022 قد الغى التعميم السابق رقم 13260 تاريخ 26 آب 2020 ؟ ( أ ).

- مدى الزامية التعميمين بالنسبة للمصارف والعملاء فيما خص القروض غير الموثقة بتامينات عينية عقارية ( ب ).

- وجوب التمييز بين القروض الموثقة بتأمينات عينية عقارية وبين تلك غير الموثقة بمثل هذه التأمينات ( ج ).

أ ـ في كون التعميم رقم 646 تاريخ 12/10/2022 قد الغى التعميم السابق رقم 13260 تاريخ 26/8/2020

اذا كان التعميم رقم 646 لم يتضمن صراحة الغاء التعميم السابق رقم 13260 الا انه عدّل ( او الغى ) ضمنيا بعض بنوده التي تتعارض معه، وهذا ما يسمى في اللغة القانونية بالإلغاء الضمني

Abrogation tacite، خلافا للإلغاء الصريح.


وعليه بالعودة الى التعميم رقم 13260، نجد انه كان يشترط الاّ يكون العميل من غير المقيمين. والاّ يكون له حساب بالعملة الاجنبية لدى المصرف ذاته، يمكن استعماله لتسديد هذه الاقساط او الدفعات.

- الاّ يتعدى مجموع القروض السكنية الممنوحة للعميل 800.000 $ ومجموع قروض التجزئة الاخرى 100.000 $.

لم ينص التعميم رقم 646 عن كل هذه الشروط، بل تضمن عبارة صريحة هي : " استثنائيا وخلافا لأي نص تنظيمي آخر "، ما يعني ان الشـــــروط المدرجة في التعميم رقم 13260 لم تعد قائمة في التعميم رقم 646. أضف ان التعميم رقم 13260 كان ينظم فقط الاقساط والدفعات الشهرية، بينما نظّم التعميم رقم 646 الايفاء المسبق لكامل القرض.


فلم تعد ثمة فائدة من ابقاء التعميم رقم 13260 في قائمة النصوص القانونية المصرفية Répertoire، بل يجب شطبه منها، لغاية الوضوح وعدم الوقوع في الاخطاء في " عجقة " النصوص المصرفية الحاضرة.


ب ـ مدى الزامية التعميمين بالنسبة للمصارف والعملاء، فيما خص القروض غير الموثقة بتامينات عينية عقارية

نشير هنا اننا سنحصر هذه الفقرة في القروض غير الموثقة بتامينات عينية عقارية. فلا بد بادىء ذي بدء من العودة الى نص المادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود.

فالمادة 110 م.ع تنص انه " اذا كان الاجل موضوعا لمصلحة الدائن او الفريقين المشتركة، فهو يمنع المديون من التنفيذ الاختياري للموجب ".

والمادة 112 م.ع تنص " ان الفريق الذي يستفيد وحده من الاجل يمكنه ان يتنازل عنه بمجرد مشيئته ".

قبل التطرق لهاتين المادتين، لا بد من الاشارة الى ان الاجل المدرج في عقود القروض، هو لمصلحة المصرف والعميل في آن واحد: لمصلحة المصرف لانه يمكنّه من استيفاء الفوائد طيلة الفترة الواقعة بين ابرام القرض وحلول الاجل. ولمصلحة العميل ايضا لانه يمكّنه من تقسيط دينه على فترة زمنية طويلة، ولحين السداد الكامل. فلا يصح قانونا، عملا بالمادتين 110 و112 التنازل عن الاجل الا بارادة الفريقين (سنرى ان الاجل ليس متعلقا بالنظام العام او بالقوانين الالزامية ويصح تاليا التنازل عنه).


فلا يصح قانونا الزام العميل بالايفاء المسبق قبل حلول الاجل. كما لا يصح ايضا الزام المصرف به، كون كل منهما مستفيدا من الاجل، كما هو مبيّن اعلاه. الا اذا تضمن عقد القرض المصرفي بنداً صريحا، يجيز الايفاء المسبق بغرامة أو من دونها.


لا توجد اي مشكلة قانونية في الايفاء المسبق، عندما يتم النص عنه صراحة في عقد القرض. ولكن المشكلة تكمن في رفض المصرف للايفاء المسبق، عند عدم وجود نص صريح في عقد القرض يلزمه بالقبول به.


فهل يُغلَّب نص التعميم رقم 646 ام نص المادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود ؟

قبل الاجابة على هذا السؤال لا بد من الاشارة الى ان المدة 113 من قانون الموجبات والعقود نصّت عن الحالات التي تسقط فيها الاستفادة من الاجل. وهي حالات، ينهض من النص، ان تعدادها حصري وليس على سبيل المثال Limitatif et non énonciatif.

لقد جاء في التعميم رقم 646 العبارة التالية: " استثنائيا وخلافا لاي نص تنظيمي آخر".

نتفهم جيدا الطابع الاستثنائي للتعميم. ولكننا لا نتفهم عبارة " خلافا لاي نص تنظيمي آخر".


فالتعميم المذكور، يستند الى الصلاحيات الممنوحة لحاكم مصرف لبنان في قانون النقد والتسليف والمبررة تحديدا في الظروف الاستثنائية، سيما وان المادتين 70 و174 منه، تنصّان انه من ضمن مهام مصرف لبنان العامة، المحافظة على الاستقرار الاقتصادي وعلى سلامة اوضاع النظام المصرفي ...، وان له في ذلك صلاحيات شاملة في وضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن سير علاقة المصارف بمودعيها وعملائها. وانه على المصارف ان تتقيّد بها حفاظا على حالة سيولتها.


اذن، ان التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان، والتي تأتي في اطار ممارسته للصلاحيات المناطة به وفق احكام قانون النقد والتسليف ، هي في المبدأ ملزمة ويقتضي العمل بها والتقيّد بمندرجاتها، وذلك متى جاءت متوافقة مع القواعد القانونية الاعلى منها مرتبة؛ بيد ان الامر يصبح على خلاف ذلك، متى تعارضت تلك التعاميم مع القواعد القانونية الالزامية بطبيعتها، بحيث انه وسندا لمبدأ تسلسل القواعد القانونية المنصوص عنه في المادة 2 أ.م.م (Pyramide de Kelsen)، يتوجب على المحكمة ان تطبق القاعدة الاعلى مرتبة وتهمل تلك الادنى ، في كل مرة تجد ان ثمة تعارضا بين قاعدتين تحكمان الموضوع المتنازع عليه.



هنا لا بد من الاشارة الى انه لا تستقيم قانونا الآراء القائلة بان مثل هذه التعاميم الصادرة عن حاكم مصرف لبنان، وفقا لصلاحياته المستمدة من القانون – بصفته سلطة عامة ذات صلاحيات استثنائية – تبقى ملزمة وسارية المفعول، طالما لم يصدر اي قرار بابطالها عن المرجع المختص، الا وهو مجلس شورى الدولة. وان هذا الامر يخرج عن احتصاص القضاء العدلي، وذلك للاسباب التالية:

- انه يتوجب على القاضي، وفي كل مرة يجد نفسه امام قاعدتين قانونيتين متعارضتين، تنطبقان على المادة المتنازع عليها، ان يطبق القاعدة الاعلى مرتبة، وان يهمل تطبيق تلك الادنى منها. فالمفاضلة بين القواعد الواجب تطبيقها على المسألة المتنازع عليها، انما يدخل في صلب الوظيفة القضائية، بحسب صراحة المادة الثانية أ.م.م، وذلك دونما حاجة لانتظار صدور اي قرار بابطال القاعدة المخالفة من قبل المرجع المختص؛ اذ انه في حال تحقق هذا الامر الاخير، تنتفي الحاجة اساسا لاعمال مبدا تسلسل القواعد القانونية؛ اذ لا يضحى القاضي عندها امام قاعدتين متعارضتين، لانعدام وجود القاعدة المخالفة اصلا، في ظل صدور قرار بإبطالها من مجلس شورى الدولة.


- ان سلطة القاضي في هذا المجال تنحصر في إعمال القاعدة القانونية الاعلى مرتبة، دون الدخول في مدى ملاءمة القاعدة الادنى؛ وتحديدا هنا، تعميم حاكم مصرف لبنان رقم 646 المشار اليه، وانسجامه مع الصلاحيات الممنوحة للحاكم بمقتضى احكام قانون النقد والتسليف ؛ علما بانه، وفي مطلق الاحوال، فان المادة 70 المرتكز اليها لتبرير قانونية التعميم، تنص ان مهمة مصرف لبنان العامة هي " المحافظة على النقد لتأمين اساس نمو اقتصادي واجتماعي دائم "، ومن مهامه الرئيسية الاولى المحافظة على سلامة النقد اللبناني والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي؛ ما يطرح التساؤل عن مدى تحقق هذين الامرين عبر فرض القبول بالإيفاء المسبق وبالشروط المحددة في التعميم رقم 646.


- ان الظروف الاستثنائية التي استهل بها حاكم مصرف لبنان تعميمه ذات الرقم 646، لا تبرر له مخالفة القواعد القانونية العامة الملزمة للجميع، اذ ان اي تعديل للمادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود، يجب ان يتم من خلال قانون مواز لها، وذلك احتراما وتفعيلا لمبدأ موازاة الصيغ Parallélisme des formes، بحيث لا يمكن تعديل اي مادة قانونية عبر تعاميم او قرارات وسيطة صادرة عن حاكم مصرف لبنان.

استنادا لكل ما تقدم، يتحتم على القاضي احترام مبدأ تسلسل القواعد القانونية ( المادة 2 أ.م.م )، بحيث يتوجب عليه، استبعاد تطبيق اي تعميم صادر عن حاكم مصرف لبنان، اذا كان متعارضا مع النصوص القانونية.



فيكون التعميم رقم 646 المحكى عليه اعلاه، والذي يفرض القبول بالايفاء المسبق قبل حلول اجل الدين الناشىء عن بعض القروض المعددة في متنه، مخالفا للمادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود، ما يوجب على القاضي استبعاد تطبيقه، اذا عارضه المصرف، غير الملزم به.


ولكن عمليا، يطلب فرع المصرف من العميل ان يتقدم بطلب موافقة للاستفادة من الايفاء المسبق عملا بالتعميم رقم 646، فيعمد الفرع الى احالة الطلب الى ادارة المصرف العامة. وفي ضوئه يصار الى الموافقة ام لا. ولكننا نشير الى ان المصرف ليس ملزما بالموافقة على الطلب ولو توافرت كافة الشروط الملحوظة في التعميم المذكور، لان هذا الاخير ليس اصلا ملزما له، في ضوء صراحة نص المادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود.



ج ـ مدى الزامية التعميمين بالنسبة للمصارف والعملاء، فيما خص القروض الموثقة بتأمينات عينية عقارية

هنا يختلف المشهد القانوني عمّا هو عليه في حالة القروض غير الموثقة بتأمين عقاري، إذ نصّت المادة 146 من القارا رقم 3339 ( قانون الملكية العقارية )، انه يحق للمدين وفقا للقواعد المعيّنة أدناه ( اي في هذا القرار ) ان يتحرر من موجبه قبل اجله ، دون اذن من الدائنين اصحاب التأمين.

يُفهم من هذا النص انه يحق للمدين ان يتحرر من الدين المضمون بالتأمين، حتى قبل حلول اجله، وبدون رضى الدائن المؤمن، شرط ان يتقيّد بالاجراءات الخاصة بترقين القيود التأمينية .


لم يتعرض هذا النص لفوائد الدين عن المدة الواقعة بين تاريخ الوفاء به وتاريخ حلول الاجل المحدد له اصلا، فهل يكون للمدين ان يخصم هذه الفوائد ام لا ؟

يُفهم من عبارة " يحق للمديون ان يتحرر من موجبه قبل اجله، دون اذن من الدائنين اصحاب التأمين "الواردة في المادة 146 المذكورة اعلاه، انه اذا كان الدين مما ينتج فوائد، كان للمدين، ان يقطع هذه الفوائد عن المدة الباقية الى حين حلول اجل الدين.

واذا رفض الدائن قبول الايفاء قبل حلول الاجل، كان للمدين ان يلجأ الى عرض المبلغ عرضا فعليا وايداعه لحسابه طبقا لاحكام المادة 151 من القرار رقم 3339 وللاجراءات المقررة في المواد 822 وما يليها أ.م.م.


ويجب ان يشمل العرض مبلغ الدين والفوائد المستحقة حتى تاريخ العرض والنفقات المقررة وسائر ملحقاته، اذا كان ثمة ثمة ملحقات أخرى .

اما اذا كان الدين لا ينتج فوائد فلا يحق للمدين ان يقتطع منه اي فائدة عن المدة الباقية حتى تاريخ حلول الاجل، اذ ان الايفاء يتم هنا بارادة المدين وليس بطلب الدائن، ولان المشترع الذي اعطاه حق الايفاء، قبل حلول الاجل، لم يعطه حق اقتطاع الفائدة، اذا كان الدين لا ينتج فوائد .



في الممارسة العملية، نجد ان المصارف دأبت على ادراج بند واضح في عقد القرض المصرفي ترفض بموجبه الايفاء المسبق من قبل العميل، قبل حلول الاجل، او تربط قبولها بدفع غرامة من قبل المدين، تكون معادلة للفوائد المقررة عن الفترة الفاصلة بين الايفاء المسبق وتاريخ حلول الاجل.

فهل هذا البند صحيح ويعمل به تاليا ام انه باطل ولا ينشأ عنه اي أثر قانوني؟

للاجابة على هذا السؤال، لا بد بادئ ذي بدء من الاشارة الى وجود تناقض بين نص المادة 146 من القرار رقم 3339، تاريخ 12 تشرين الثاني 1930 التي تجيز للمدين التحرر من موجبه قبل حلول اجله، نص المادتين 110 و112 من قانون الموجبات والعقود، تاريخ 9 آذار 1932؛ اذ تنص المادة 110 منه انه " اذا كان الاجل موضوعا لمصلحة الدائن او لمصلحة الفريقين المشتركة، فهو يمنع المديون من التنفيذ الاختياري للموجب ". كما تنص المادة 112 من القانون ذاته وفي الاتجاه عينه " ان الفريق الذي يستفيد وحده من الاجل، يمكنه ان يتنازل عنه بمجرد مشيئته".


يُفهم من هذين النصين انه في القروض المصرفية، يكون الاجل موضوعا لمصلحة الفريقين، اذ ان المصرف يستفيد من الفوائد لقاء القرض، فيما يستفيد المدين ( العميل – المقترض ) من الاجل لتقسيط الدين المتمثل بالقرض. فلا يصح تاليا سندا للمادة 110 م.ع للمدين ان يعمد الى الايفاء المسبق قبل حلول الاجل. وان الحق بالتنازل عن الاجل، يعود فقط للمستفيد وحده منه.


فأي من النصوص هو الواجب التطبيق في مادة القروض الموثقة بتأمينات عينية عقارية ؟

إذا كان صحيحا ان قانون الموجبات والعقود هو الاحدث تاريخا، فان الصحيح ايضا ان القرار رقم 3339 تضمن نصا خاصا هو نص المادة 146 منه، المتعلق بوفاء الدين المضمون بالتأمين، فيما تناولت المادتان 110 و112 من قانون الموجبات والعقود الموجبات ذاته الاجل بصورة عامة.


وان قواعد تفسير النصوص القانونية، تفترض انه عند حصول تعارض بين نص عام ونص خاص، يُغلَّب النص الخاص على النص العام، عملا بالقاعدة الكلية المعمول بها في تفسير النصوص القانونية، القائلة " ان الخاص يخرق العام Le spécial déroge au général "، ما يقتضي معه إعمال نص المادة 146 من القرار رقم 3339 في حالات وفاء الدين المضمون بالتأمين، لأنه نص خاص وضع خصيصا لهذا النوع من العقود.


ولكن السؤال يبقى مطروحا لمعرفة ما اذا كان ادراج بند منع الايفاء المسبق وقبل حلول الاجل المدرج في عقود القروض المصرفية صحيح ام لا ؟

ان المادة 146 من القرار رقم 3339 ليست الزامية او متعلقة بالنظام العام، وبالتالي يجوز للفريقين الاتفاق على مخالفتها مسبقا في بند صريح مدرج في عقد القرض المصرفي، يمنع المدين من الايفاء المسبق قبل حلول الاجل، الا إذا حصل ذلك بموافقة المصرف.


هكذا نوجز خلاصة المشهد في القروض المصرفية الموثقة بتأمين كما يلي:

يجوز للمدين، وبدون الحاجة الى الاستعانة بالتعميم رقم 646، ان يعمد الى الايفاء المسبق سندا للمادتين 146 و 151 من القرار رقم 3339. ولا تتوجب عليه اي فوائد عن الفترة الفاصلة بين تاريخ الايفاء وتاريخ الاجل الذي تنازل عنه، اذ ان المادة 151 تشترط "ايداع مبلغ الدين" في فقرتيها الاولى والثانية، بدون الاشارة الى الفوائد او اللواحق او ما شابه. وهذا يشترط فقط عدم ادراج بند صريح في العقد المصرفي يمنع الايفاء المسبق قبل حلول الاجل؛ اذ لا يمكن للمدين، بغير موافقة الدائن ( وهنا المصرف ) ان يعمد الى الايفاء المسبق قبل حلول الاجل، بالرغم من نص المادتين 146 و151 من القرار رقم 3339، والتعميم رقم 646، عند ادراج بند صريح في عقد القرض المصرفي يمنع الايفاء قبل حلول الاجل الا بموافقة المصرف، حيث هنا تبقى موافقة المصرف لازمة.

ان التعميم رقم 646 ادنى مرتبة في هرمية تسلسل القواعد القانونية من المادتين 146 و 151 من القرار رقم 3339، كما سبق شرحه اعلاه، فلا يمكن إعماله خلافا لمضمونهما.


ولا بد من الاشارة، الى ان التعميم رقم 646 قد ألغى شرط الاقامة في الخارج الذي كان منصوصا عنه في التعميم رقم 13260 بصورة ضمنية اذ لم يدرجه حاكم مصرف لبنان، كشرط لإعمال التعميم رقم 646، فأصبحت القروض المقصودة بالتعميم هي الاتية:

- القروض السكنية كافة.

- القروض التي تمنح لمتابعة الدراسة في مؤسسة من مؤسسات التعلميم العالي.

- القروض البيئية التي لا يتجاوز كل منها ثلاثين مليون ليرة لبنانية.

نلاحظ بان التعميم خلا من عبارة " قروض التجزئة " التي كانت قد أستعملت في التعميم رقم 13260.



ونضيف بان القروض السكنية هي التي تكون عادة موثقة بتأمينات عينية عقارية، خلافا للقروض الاخرى مثل قروض شراء السيارات او قروض متابعة الدراسة او القروض البيئية ( قروض التجزئة بصورة عامة ) حيث لا تكون موثقة باي تأمينات عينية عقارية.

وفي الختام نقول بانه عند ادراج بند يجيز او يمنع الايفاء المسبق للقرض قبل حلول الاجل، يجب التقيد به، كما اشرنا اليه اعلاه ، سواء كنا في معرض قروض موثقة بتامينات ام لا.


عند عدم ادراج اي بند يجيز او يمنع الايفاء المسبق قبل حلول الاجل، يجوز للمدين ان يعمد الى الايفاء المسبق بدون موافقة المصرف في القروض الموثقة بتأمينات. ولا يجوز له ذلك ( اي يجب الاستحصال على موافقة المصرف ) في العقود غير الموثقة بتأمينات ( سائر قروض التجزئة غير القروض السكنية ).

في الممارسة العملية، يطلب المصرف من عميله تقديم طلب يعرض بموجبه الايفاء المسبق قبل حلول الاجل، فاذا وافقت الادارة على ذلك، استجيب طلبه. واذا رفضت، يكون رفضها حاسماً، في ضوء النصوص المعددة اعلاه.


يبقى ان نتساءل عن الفائدة العملية من التعميم رقم 646 في ضوء ما هو مبسوط اعلاه ؟

لا نرى اي فائدة عملية له سوى التحفيز على الايفاء المسبق قبل حلول الاجل. فهو يذكرني بقصّة قرأتها منذ ما يزيد على خمسة عقود عن رجل مشرّد دخل الى كوخ يقطنه احد الفلاحين في الريف الفرنسي البعيد وطلب منه ان يقدم له حساءً ساخناً يقيه البرد القارس الذي اصاب جسده، فاجابه الفلاح بان ليس لديه الحساء المطلوب. عندها لجأ المشرّد الى حيلة ذكية، فأجاب الفلاح بانه يحمل حجرا لتحضير الحساء Pierre à soupe. تجاوب معه الفلاح، فطلب منه ان يضع الماء على النار ففعل، ثم طلب منه ان يضيف الى الماء الساخن بعض الخضار ويقوم بغليها ثم وضع بعض الملح في الماء. وبعدها اعطاه " حجر الحساء" الذي بحوزته، ووضعه في الوعاء، فأصبح الحساء جاهزاً وشرب منه الفلاح والمشّرد.


ان التعميم رقم 646 يشبه الى حد بعيد " حجر الحساء "، فالفائدة منه معنوية اكثر مما هي عملية، ما يحملنا على التساؤل: أهو حقيقة ام وهم ؟!

في خضم النصوص المتعددة والمتضاربة احيانا، يحاول حاكم مصرف لبنان ان يملأ الفراغ التشريعي بسيل من تعاميمه، الموفقة احيانا وغير الموفقة احيانا اخرى. وتبقى الحاجة اخيرا الى نصوص تشريعية تحل كل المشاكل الطارئة، تلك النصوص ستكون مثل "حجر الحساء" إذا لم تكن نقطة البداية اعداد "خطة تعافي اقتصادية" تنشلنا من قعر البئر الذي سقطنا فيه منذ سنوات. ويجب دائما الاستعانة بالمحترفين في مجال القانون والمال والاقتصاد، بعيدا عن السطحية وشغف الظهور الاعلامي الفارغ. لا يجب ان تتوقف الورشة التشريعية في مجلس النواب لاعادة لبنان الى الخارطة الاقتصادية الدولية بدون ان ننسى وجوب البقاء على خط " صندوق النقد الدولي " الكفيل بكسر عزلتنا السياسية والاقتصادية التي اوصلنا اليها قصيرو النظر.

رباه لا تترك لبنان.