نافاي شودري

الصرّافون في أفغانستان يتحايلون على "طالبان"

1 كانون الأول 2022

02 : 00

صرافون أفغان بالقرب من سوق الصرافين في كابول | أفغانستان، 15 آذار ٢٠٢٢
بعد مرور سنة على عودة حركة «طالبان» إلى السلطة، أصبح الصرافون في أفغانستان محاصرين بسبب الاضطرابات الاقتصادية والقواعد الصارمة التي يفرضها النظام الجديد. كان وضع السوق الذي ينشطون فيه أفضل حالاً طبعاً، ومع ذلك لا يبدي 400 صرّاف في وسط كابول استعدادهم للاستسلام. هم يتابعون تقديم مجموعة واسعة من الخدمات المالية يومياً، فلا يكتفون بصرف العملات، بل يقومون أيضاً بتحويل الأموال وفتح حسابات ادخار، حتى أنهم يمنحون القروض للعملاء الجديرين بالثقة.




رغم التحديات الاستثنائية التي يفرضها نظام «طالبان»، أصبح الصرافون حبل نجاة للاقتصاد الأفغاني، فقد وضعوا الاستراتيجيات المناسبة وتكيفوا مع الوضع الطبيعي الجديد. بعد فصل البنوك الأفغانية عن النظام المالي الدولي، أصبح الصرافون صلة وصل نادرة بين أفغانستان والعالم الخارجي.

تكشف تجربة الصرافين الأفغان إلى أي حد يستطيع اللاعبون في السوق المحلي التكيف مع التقلبات السياسية والاقتصادية سريعاً. يدعم الصرافون النمو عبر أخذ مجازفات مدروسة في زمن الازدهار، ويحافظون على الخدمات المالية الأساسية في زمن الأزمات. تمكن الصرافون، على مر قرن من الزمن، من مقاومة سطوة الدولة، فصمدوا رغم نشوء الأنظمة وسقوطها، وحافظوا في الوقت نفسه على جوهر الاقتصاد الأفغاني.

بعد استيلاء «طالبان» على السلطة، ظن عدد كبير من الصرافين أن القواعد المفروضة على سوقهم ستصبح أقل صرامة. أقرّت الحكومة السابقة تشريعات لتوسيع سيطرتها على السوق تدريجاً، بينما كان السوق يخلو من أي تنظيمات خلال عهد «طالبان» السابق في أواخر التسعينات.

لكن قررت «طالبان» هذه المرة تغيير مسارها. زادت الضمانات المالية التي يُفترض أن يضعها كل صرّاف في البنك المركزي الأفغاني بعشرة أضعاف، من 3 آلاف إلى 30 ألف دولار. كذلك، أصرّت «طالبان» على نقل الصرافين من الملكية الفردية إلى شركات يتعدد فيها أصحاب المصالح، ما يُسهّل على الحكومة تعقب حركة الأموال. في عهد الحكومة السابقة، قاوم الصرافون هذا النوع من التعديلات بشراسة، لأن هذه المتطلبات كانت لتعرّضهم لمخاطر متزايدة عبر تسهيل وصول صرافين آخرين إلى أموالهم. لكن رضخ الصرافون اليوم لهذه المطالب على ما يبدو.

مع ذلك، عجزت حركة «طالبان» عن فرض سيطرتها الكاملة على الصرافين، بغض النظر عن مقاربتها. في المقام الأول، وضع الصرافون استراتيجيات جديدة لاسترضاء المسؤولين في «طالبان» والتحايل عليهم أحياناً، فطرحوا أنفسهم ككيان ذاتي الحُكم، ما يعني أن ينحازوا إلى الحكومة إذا كانت هذه الخطوة تفيدهم أو يقاوموها إذا كانت تسيء إليهم. في شهر شباط الماضي، انضم الصرافون إلى «طالبان» لدعوة الولايات المتحدة إلى فك تجميد أصول البنك المركزي الأفغاني التي تصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار. لكن رفض الصرافون في الشهر الماضي محاولات «طالبان» الرامية إلى منع الانتخابات السنوية لرئيس سوق الصرف، فتابعوا بذلك السيطرة على شؤون السوق الداخلية. بالنسبة إلى الصرافين، تبقى الولاءات عابرة وهي تُسهّل صمود السوق لأطول فترة في نهاية المطاف.

تدرك «طالبان» في جميع الأحوال أن نظام تحويل الأموال غير الرسمي الذي يديره الصرافون هو صلة الوصل المالية الوحيدة بين أفغانستان والعالم الخارجي. تُسهّل هذه العمليات دخول التحويلات المالية إلى البلد وتسمح للتجار المحليين بدفع المال للموردين الأجانب، حتى لو تواجدوا في دول مجاورة لم تعد تمنح التأشيرات إلى الأفغان. تتكل الشركات الصغيرة والمتوسطة على الصرافين لتلقي التحويلات المالية والقروض وتسهيل استيراد السلع. في كانون الثاني، اكتشف المجلس النروجي للاجئين أن أكثر من 70 منظمة إنسانية غير حكومية تستعمل نظام التحويلات المالية. كانت المعاناة الإنسانية لتتفاقم من دونه.

على غرار الحكومات السابقة، تتكل «طالبان» بدورها على الصرافين للحفاظ على قيمة العملة الأفغانية عبر تنظيم مزادات بالدولار الأميركي، حيث يبيع البنك المركزي الأفغاني الدولار إلى الصرافين لامتصاص فائض العملة الأفغانية المتداولة ومنع تراجع قيمتها.

زادت أهمية عمل الصرافين تزامناً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في أفغانستان. انكمش الاقتصاد بنسبة 30% تقريباً منذ آب 2021 بسبب خليط من العقوبات، وتوقف المساعدات الدولية، وهجرة مئات آلاف الأفغان. تشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى خسارة الاقتصاد حوالى 5 مليارات دولار منذ السنة الماضية. وبسبب ارتفاع مستوى البطالة، يتعامل نصف السكان تقريباً مع مستويات هائلة من انعدام الأمن الغذائي.

أصبح نصف أصول البنك المركزي الأفغاني عالقاً بسبب دعاوى في المحاكم الأميركية، منذ آب 2021، حول أحقية ضحايا هجوم 11 أيلول وعائلاتهم بالحصول على أموال أفغانستان العامة. كذلك، حوّلت واشنطن حديثاً النصف الآخر من تلك الأصول إلى بنك التسويات الدولية في سويسرا بهدف استعمالها لإعادة الاستقرار إلى الاقتصاد الأفغاني، لكن من دون إقامة أي تواصل مع «طالبان». لا تزال آليات تلك المساعدات مبهمة وستتأثر حتماً بالمشاحنات السياسية واللوجستية التي تبقي الأصول الاحتياطية خارج متناول الشعب الأفغاني. لكن كان إيجابياً أن تُسهّل الحكومة الأميركية وشركاؤها تحويل جزء صغير من تلك الأموال حديثاً لإرسال عملات ورقية بقيمة 10 مليارات أفغاني إلى أفغانستان. أصبح البلد بأمسّ الحاجة إلى هذا النوع من التدابير لأن العقوبات المفروضة على الواردات بعملة الأفغاني أدت حتى الآن إلى انهيار الوضع المالي بطريقة لا يمكن إصلاحها.

وصلت البنوك إلى نقطة الانهيار بعد عزلها عن النظام المالي العالمي، ولم تعد تستطيع المشاركة في التحويلات الدولية. كذلك، بدأت الأموال تخرج من خزائنها بوتيرة ثابتة. يصطف العملاء يومياً في الساعة الخامسة فجراً لسحب المبلغ الأسبوعي المسموح به (400$)، وهو الحدّ الذي فرضته «طالبان» لمنع استنزاف مخزون البنوك. في الوقت نفسه، عمدت جميع البنوك إلى تقليص عملياتها بطريقة جذرية، فلم تبقَ إلا فروع قليلة في عدد صغير من المدن الأفغانية الكبرى. نتيجةً لذلك، انهارت ثقة الرأي العام بالبنوك ولن تتجدد على الأرجح قبل مرور بضعة عقود.

لطالما كان دور البنوك محدوداً في المجتمع، حتى في أفضل الظروف، فلم تتمكن يوماً من أخذ مكان الصرافين. في آخر عقدَين، كان معظم عملاء البنوك يأتون بشكلٍ أساسي من وسط المدن. وفق معطيات البنك الدولي، اقتصرت نسبة الراشدين الذين يملكون حسابات مصرفية بدءاً من العام 2020 على 15%، وكان جزء كبير من هؤلاء العملاء يحتاج إلى تلك الحسابات لتلقي الرواتب بكل بساطة. كذلك، لطالما كانت البنوك الأفغانية متحفظة في منح القروض لأن أزمة مصرفية حادة اجتاحت البلد في العام 2010، حين تبيّن أن بنك كابول، وهو واحد من أهم بنوك أفغانستان، متورّط في عمليات احتيال. في العام 2019، ذكر البنك الدولي أن حجم القروض نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 3% في أفغانستان، وهو الأدنى مستوى في العالم. في تلك السنة، بلغ متوسط القروض نسبةً إلى الناتج المحلي 59% عالمياً. حتى البلدان الغارقة في الصراعات، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، تفوّقت على أفغانستان بنسبة تفوق الضعف. كما يحصل اليوم، لم يكن العملاء الأفغان حينها يستطيعون الاتكال على البنوك لأخذ القروض.


نجح القطاع المصرفي الأفغاني في تقديم خدماته إلى نخبة محدودة، لكنه فشل في ترك أثر إيجابي في المجتمع ككل. كان هذا القطاع يتكل على خدمات الحكومة السابقة للحفاظ على علاقاته مع النظام المالي الدولي، ولطالما شكّلت النشاطات المالية المرتبطة بالدولة (رواتب الموظفين، مشاريع التنمية، الشركات التي تقدم خدماتها إلى الحكومة) مصدراً أولياً لرساميل البنوك. بعد إسقاط ذلك النظام، انهارت أسس القطاع المصرفي بدءاً من أدنى المراتب. في المقابل، ينشط الصرافون من أدنى المراتب إلى أعلاها، فقد طوّروا خدماتهم المالية تدريجاً في جميع أجزاء المجتمع ولطالما قاوموا تدخّل الدولة غير المبرر.

جاءت الأزمات المالية في باكستان، وسريلانكا، والأرجنتين، وأماكن أخرى، في السنوات القليلة الماضية، لتذكّرنا بأن وجود القطاع المصرفي لا يضمن صموده. في أفغانستان، تعثرت البنوك منذ عودة «طالبان» إلى السلطة بينما تكيّف الصرافون مع الظروف المستجدة ونجحوا في تعويم الاقتصاد كله. تراجعت هوامش أرباحهم طبعاً، لكن لا يزال سوقهم سليماً فيما يتابعون البحث عن فرص مالية جديدة. يرتبط نجاحهم المستمر باستقلاليتهم عن الدولة، وقدراتهم الإبداعية، وتوسّع شبكاتهم المالية التي تخترق عمق المجتمع.

تثبت التجارب التاريخية أن الصرافين الأفغان سيتابعون عملهم لفترة طويلة. في الوقت الراهن، أصبح دعم البنوك الأفغانية ضرورياً كي يتلقى العملاء مدخراتهم التي جمعوها بعرق جبينهم. في الحالة المثلى، كانت هذه العملية لتفرض على البنك المركزي الأفغاني الوصول إلى كامل احتياطياته. لكن في الحد الأدنى، يُفترض أن يتم الإفراج عن الأموال الخاصة بالبنوك التجارية والمجمّدة في الخارج راهناً. في مطلق الأحوال، يبدو أن الصرافين، لا البنوك، سيضمنون استمرار الخدمات المالية للناس العاديين والشركات في أنحاء البلد خلال الأيام المقبلة.


MISS 3