مخاطر تصدّع التحالف الأميركي ـ التركي

13 : 34

تتخذ العلاقة الأميركية ـ التركية منحىً تصادمياً. كان البلدان حليفَين في الناتو طوال 70 سنة تقريباً، لكن تدهورت هذه الشراكة تدريجاً في السنوات القليلة الماضية، فبدأت واشنطن تشكك بمصداقية تركيا كحليفة يمكن الاتكال عليها، واشتبهت أنقرة بأن الولايات المتحدة لا تأخذ مخاوفها الأمنية على محمل الجد. لكن في آخر ستة أشهر، تدهورت العلاقات بين البلدين بدرجة غير مسبوقة.

تتّسع الهوة بين أنقرة وواشنطن في الملف السوري. تعاون عدد كبير من الجنود والمسؤولين الأميركيين عن قرب مع مجموعة من المقاتلين الأكراد السوريين طوال سنوات في خضم معركتهم ضد "الدولة الإسلامية" أو تنظيم "داعش"، لذا امتعضوا حتماً حين شاهدوا ترامب وهو يعطي أردوغان الضوء الأخضر لغزو شمال سوريا. بسبب التوغل التركي، تحوّل آلاف السكان المحليين إلى لاجئين، ما أدى إلى زيادة قوة إيران وروسيا في سوريا. نتيجةً لذلك، اضطر الأكراد، شركاء الأميركيين، السابقون، لتوثيق علاقاتهم مع بشار الأسد بشروطٍ ترضي نظامه.

في الوقت نفسه، لا يستطيع المسؤولون الأميركيون ادعاء عدم فهم الدوافع وراء التحرك التركي. كانت معارضة أنقرة القوية للدعم الأميركي لـ"وحدات حماية الشعب" (الجماعة الكردية السورية التي قدّمت أكبر المساهمات في الحملة ضد "داعش" في شمال سوريا) واضحة منذ البداية. وكانت علاقات تلك الوحدات مع "حزب العمال الكردستاني" في تركيا (تعتبره أنقرة وواشنطن معاً تنظيماً إرهابياً) تعني أن تركيا لن تقف مكتوفة اليدين فيما تعمد الولايات المتحدة إلى تسليح وتدريب جماعة تعتبرها مصدر تهديد على وجودها. بعد الفشل في التوصل إلى اتفاق مع أنقرة لتنفيذ تحرك عسكري مشترك في سوريا خلال العام 2014، أقامت واشنطن شراكة مع "وحدات حماية الشعب" وسط اعتراضات تركية قوية. أعلن المسؤولون الأميركيون أن التعاون مع هذه الوحدات سيكون "موقتاً وعملياً وتكتيكياً"، لكن سرعان ما بدأت هذه العلاقة تتخذ شكلاً من الاستمرارية، فقد تقرّب عناصر القوات الأميركية الخاصة من نظرائهم الأكراد في الخنادق ودعم الدبلوماسيون الأميركيون مشاريع إعادة الإعمار في المناطق السورية التي يسيطر عليها الأكراد. ورغم إطلاق مسار ديبلوماسي لتقليص مخاوف أنقرة الأمنية، سئم أردوغان من تباطؤ إيقاع المحادثات وكثّف ضغوطه في هذه المسألة حين تكلم مع ترامب عبر الهاتف في شهر تشرين الأول، وسرعان ما وافق الرئيس الأميركي على التدخل العسكري التركي.




الكونغرس يزيد ضغوطهفي هذه المرحلة، لم يبقَ من العلاقة بين البلدين إلا الرابط الشخصي والمتبدّل الذي يجمـع الرئيسَين المتقلبَين والشعبويَين، علماً أن كليهما يتعرّض لنوبات عاطفية ويميل إلى اتخاذ قرارات متسرعة. تبدّلت مواقف ترامب بطريقة متطرفة، فانتقل من التعبير عن تعاطفه مع الموقف التركي وإعجابه بأردوغان إلى التهديد بـ"تدمير ونسف" الاقتصاد التركي، كما حذر أردوغان من التصرف "بحماقة"! وحين سعى ترامب إلى الحفاظ على روابطه الوثيقة مع أنقرة، تجاهل بذلك آراء عدد كبير من مستشاريه وأعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. أما أردوغان، فيبدو أنه مقتنع بقدرة ترامب على حماية تركيا من غضب الكونغرس وأي عقوبات حادة (هذا ما فعله الرئيس الأميركي حتى الآن عبر رفض تنفيذ العقوبات التي فرضها الكونغرس والتعبير علناً عن تعاطفه مع المواقف التركية)، لكن قد تعكس هذه القناعة حسابات خاطئة على نحو خطير.

رغم عقد اجتماع "ودّي" ظاهرياً بين ترامب وأردوغان في البيت الأبيض، في 13 تشرين الثاني (أعلن ترامب بعده أنه "معجب جداً" بالرئيس التركي)، من المتوقع أن تتدهور العلاقات بدرجة إضافية. في 9 و17 كانون الأول على التوالي، مرر مجلس النواب ومجلس الشيوخ في الولايات المتحدة قانون إقرار الدفاع بأغلبية ساحقة، وهو يدعو إدارة ترامب إلى فرض عقوبات على تركيا بموجب "قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات" ("كاتسا") الذي يهدف إلى منع البلدان من شراء معدات دفاعية من روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الأميركية في العام 2016. وفي 11 كانون الأول، صوتت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ لصالح حزمة من العقوبات المنفصلة (18 صوتاً مؤيداً مقابل 4 أصوات معارِضة)، بما يشبه العقوبات التي سبق وأقرّها مجلس النواب الأميركي لمعاقبة أنقرة على تحركاتها في سوريا بموافقة ترامب. قد يصوّت مجلس الشيوخ على حزمة العقوبات هذه قريباً.

استمالة تركيا ضرورية!للمضي قدماً بأفضل طريقة، يجب أن يكلّف الرئيسان كبار الديبلوماسيين باستكشاف حلول عملية، بعيداً عن صخب السياسة. يستطيع نائب وزير الخارجية الأميركي الجديد ستيفن بيجون، والسفير الأميركي في تركيا ديفيد ساترفيلد، والممثل الخاص في سوريا جيمس جيفري، وهو سفير سابق في تركيا، التعاون مع نظرائهم الأتراك الذين يريدون بدورهم الحفاظ على العلاقة بين البلدين. لكنّ إطلاق حوار مماثل لا يعني زوال الحاجة إلى اتخاذ قرارات أكثر صعوبة. تتجه تركيا على الأرجح إلى استعمال نظام الدفاع الجوي الروسي "إس-400"، ويُفترض أن تطلق هذه الخطوة ردة فعل أميركية صارمة. يجب أن تنفذ الولايات المتحدة قانون "كاتسا" لكنها تستطيع، على المدى القصير على الأقل، أن تتجنب أقسى التدابير في هذا التشريع، على غرار الامتناع عن منح تراخيص التصدير لبيع الأنظمة الدفاعية. يجب ألا تقدم إدارة ترامب أي تنازلات حول الطائرات المقاتلة الأميركية "إف-35": إذا استعملت تركيا النظام الروسي الذي اشترته وشغّلت راداراتها بالكامل، يجب أن تُمنَع من استخدام برنامج "إف-35". لكن حتى لو تحقق هذا السيناريو، يتعين على واشنطن أن تعمل على عزل الأضرار، فتحاول الحفاظ على العلاقة الدفاعية عموماً وتضمن تخلي تركيا عن شراء أي أنظمة دفاعية أخرى من روسيا.

على صعيد آخر، يجب أن تحصل نقاشات منفصلة ومتواصلة مع أنقرة حول مستقبل سوريا. صحيح أن الولايات المتحدة خسرت جزءاً كبيراً من قوتها ميدانياً غداة انسحابها واستيلاء روسيا على الأرض التي كانت "وحدات حماية الشعب" تسيطر عليها سابقاً، لكن لا تزال قواتها منتشرة في سوريا ويجب أن تتابع دعم الجهود الرامية إلى تطوير حكم مستدام ونشر إجراءات أمنية مشددة في البلاد. وبعدما سمح ترامب لتركيا بغزو سوريا منعاً لنشوء كيان كردي مستقل، يتعين عليه أن يستفيد من علاقته مع أردوغان للتشجيع على استئناف محادثات السلام التي بدت واعدة سابقاً بين الحكومة التركية و"حزب العمال الكردستاني"، لأنها الطريقة الوحيدة لحل المسألة الكردية.

قد يتولّى الكونغرس دوراً أكثر أهمية في سوريا. يجب أن يفكر المشرعون ملياً بالأهداف التي يريدون تحقيقها عبر العقوبات المرتبطة بسوريا، عدا عن تأديب أردوغان أو ترامب بكل بساطة. يجب أن تهدف العقوبات إلى منع أي سلوكيات سيئة مستقبلاً بدل أن تكتفي بالاعتراض على التجاوزات الماضية. في النهاية، أقدمت تركيا على غزو شمال سوريا بموافقة ترامب ولا يمكن تغيير هذه الحقيقة.




كذلك، يجب أن يهدد الكونغرس بفرض عقوبات مستقبلية لتحقيق أهداف عملية وقابلة للتنفيذ. يستطيع مثلاً أن يقرّ عقوبات يسري مفعولها إذا انتهكت تركيا أو القوى التي تدعمها حقوق الإنسان، أو إذا اقتحمت مدناً كردية في معظمها، أو أرسلت قواتها إلى ما وراء "المنطقة الآمنة" المتفق عليها، على طول الحدود بين سوريا وتركيا. قد تعطي هذه العقوبات المستهدفة نتائج إيجابية، بينما يؤدي ربطها بأهداف متطرفة، مثل الانسحاب التركي السريع من سوريا (بالشكل الذي يطالب به التشريع الحالي)، إلى إطلاق دوامة لامتناهية من الردود المضادة. كذلك، تستطيع الولايات المتحدة أن تقدم الحوافز لتحسين سلوك تركيا. في الوقت نفسه، يجب أن تحاول تقوية الجوانب غير الشائكة في العلاقة بين البلدَين (منها جهود توسيع المبادلات التجارية) وتحتفظ ببند حقوق الإنسان على الأجندة الثنائية.

ستكون هذه الخطوات بالغة الأهمية لتقوية العلاقة بين البلدين على المدى الطويل. لا يبقى القادة الوطنيون في مناصبهم إلى الأبد. بعد الخسائر الكبرى التي تكبدها حزب أردوغان في الانتخابات البلدية في السنة الماضية ونشوء أحزاب جديدة بقيادة حلفائه السابقين، بدأ الأتراك للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات يتخيلون مستقبلاً مبنياً على قيادة مغايرة. يواجه ترامب بدوره استحقاقاً انتخابياً في شهر تشرين الثاني المقبل، ما يعني احتمال ظهور قيادة مختلفة وإطلاق بداية جديدة في البلدَين.

تركيا بلد ذات أغلبية مسلمة وموقع استراتيجي مؤثر، وهي تشكّل ثاني أكبر جيش في حلف الناتو. ورغم توتر علاقتها مع الولايات المتحدة في الوقت الراهن، ستتأثر المصالح الأميركية حتماً إذا انهارت العلاقة بين البلدين بالكامل، أو إذا أصبحت تركيا خصماً حقيقياً للولايات المتحدة. لن تستفيد من تعمق الفجوة بينهما إلا الأطراف التي تريد إبعاد تركيا عن القوى الغربية، بما في ذلك إيران وروسيا. على الولايات المتحدة أن تتجنب هذه النتيجة بأي ثمن!