مجيد مطر

نكبة جونية درسٌ سياسيّ لناخبيها

3 كانون الأول 2022

02 : 00

الأمطار التي أغرقت شوارع وطرقات وبيوت مدينة جونية نتيجة لترهّل البنية التحتية، وجعلت منها مدينة منكوبة في هذا الزمن الصعب، تبدو للوهلة الأولى أنها حدث يتعلق بالسياسة، أكثر من ارتباطه بالعمل البلدي، حيث يجب أن تترتب عليه نتائج سياسية مباشرة، منعاً لاسقاط الفشل على الآخرين، وتحميل المسؤولية حيث يجب أن تكون. فهذه المسؤولية تبدأ من السياسة، وتنتهي في السياسة.

القضية ظاهرها فشلٌ في القيام بالمهام البلدية، وفشلٌ في التخطيط، وفشلٌ في التنسيق بين البلديات وبين وزارة الطاقة، هذا الفشل نجمت عنه كارثةٌ وقعت على كاهل المواطنين في الشوارع وفي البيوت، فكان ما كان... وإنّما باطنها أبعد من ذلك.

جونية المدينة الواقعة في قضاء كسروان الذي سُيّسَ على نحوٍ غير مسبوق بعد عودة الرئيس السابق ميشال عون الى لبنان من منفاه الباريسي، ومثّله في البرلمان منذ 2005 وحتى انتخابه رئيساً للجمهورية.

الطابع السياسي لهذا الحدث يبدأ من محتوى الخطاب العوني المعهود، الذي بالغ في اسقاط ما هو تنمويّ وتحديثيّ، لصالح ما هو سياسيّ، منفعيّ، ومصلحيّ. ثم حدثت تلك المأساة لتكشف عن واقع شديد الدلالة، لناحية الفهم الحقيقي لمعنى السياسة التي وصفها ابن خلدون بأنها "صناعة الخير العام وخيرها أكثر من شرّها". والخير العام يأتي كمعنى من معاني الحكم الرشيد.

فالفريق الذي أعطته كسروان تمثيلها بكل ما له من رمزيةٍ مسيحية، والتي تم حصرها في "جملة خُلّبية" لا معنى لها: "حقوق المسيحيين"، فقد تبدّى بعد تلك الفيضانات، أنّ الأداء المناطقي أي المحلي البلدي، أشدّ بؤساً من الأداء على المستوى الوطني الذي قد يسهّل ويتيح الإحالة إلى عبارة "ما خلّونا" كتبرير ضدّ الاخفاقات التي نتجت عن السلوك العوني الكيديّ الذي أثار حفيظة الحلفاء قبل الخصوم، وكشف عن قصر نظر في الحكم والإدارة، غير مسبوق في تاريخ الجمهورية. بينما على المستوى المحلي يصعب استخدام الذريعة ذاتها. ففي كسروان عموماً، وجونية على وجه التحديد، من يمنعهم من القيام بالمهام المطلوبة لتجنب وقوع تلك المصيبة؟

طيلة سنوات استقوائه، توسّل "التيار العوني" في سعيه السلطوي، نقد أداء الآخرين في كلّ شيء، لم يترك جماعة سياسية الّا واستهدفها على خلفية أدائها الوزاري أو البلدي، هذا من دون أن ننسى استهدافه الشرس والمنفلت من عقاله ضدّ القوى المسيحية والشخصيات التي قد يسشتعر حيالها الخطورة، لمجرد افتراض قدرتها على إيصال شخصية ما، الى كرسي الرئاسة. فكلُّ مرشح لمنصبٍ ماروني يتحول سريعاً الى هدفٍ مشروع عند "التياريين" بايعاز من رئيسهم، لتشويه صورته وضرب حظوظه أو طموحه الرئاسي، حتى ولو كان في ذلك مّس بالكرامات أو اتهامات باطلة. فكل الأسلحة عندهم متاحة. هم الأنقياء الاتقياء، وغيرهم كائنات ملوثة بالموبقات على أنواعها! إنها طهرانية زائفة ومفتعلة.

وما حدث للعهد من نكسات سياسية واقتصادية كان نتيجة مباشرة لتدخل صهره في كل شاردة وواردة في القصر، فقد بات صاحب الكلمة الفصل والمقرر والمراقب لجميع الأمور، وما كشفته تقارير صحافية عن زرع أجهزة مراقبة وتنصّت في القصر، يؤكد مقولة "الرئيس الظلّ" التي لازمت العهد السابق طيلة فترة حكمه.

ونحن اللبنانيين، قد خبرنا تجارب "الأصهرة" في الحكم، وقد تجلت بداية في زمن المتصرفية في حكم المتصرف واصا باشا، الذي وقع ضحية صهره "كوبليان" الذي كان مستشاراً له ومديراً لدائرته السياسية، فاستغل مرض وضعف المتصرّف واصا باشا، ليعمّ الفساد والرشوة دوائر المتصرفية حيث عجز المتصرّف عن وضع حدٍ لهما. في لبنان يسهل أن يكرر التاريخ نفسه، بمأساة أو ملهاة لا فرق.

ربّ ضارة نافعة. ربّ حدث أو تجربة قد يساعدان في إعادة نصاب الأمور إلى منطقه الأساسي، أي منطق المساءلة والمحاسبة، ليس للمستقبل فحسب، بل بمفعول رجعي عن كلّ المحطات السابقة التي امتنع فيها هؤلاء عن وضع مصالح المواطنين ضمن أولوياتهم. فدائماً تأتي الاستفاقة بعد الكارثة لا قبلها.

إنّه السلوك الذي لا يُدخل التنمية في اعتباره، ولا يعنيه المجتمع شيئاً، فلا التعليم، ولا نوعيته، ولا البيئة، والفن والمسرح ولا كلّ ما له علاقة مباشرة بالحياة اليومية. فقد يجيدون الابداع المصلحي المجرّد من العواطف.

رغم هول ما شهدناه لم يرف لهم جفن، لم نجد من يتحمّل المسؤولية بشجاعة، أو يقدّم استقالته احتراماً لمعاناة الناس وكراماتهم انطلاقاً من أبسط حقوق الانسان الملازمة للطبيعة البشرية، "فهي المعايير الأساسية التي لا يمكن للناس من دونها أن يعيشوا بكرامة البشر".

فالمحاسبة لا يمكن أن تتم خارج منظومة المعرفة بالحقوق والواجبات، التي تشكل الفارق بين ثقافة الخضوع وثقافة المشاركة. في العالم يوجد مسؤولون يكذبون، وآخرون يقولون الحقيقة. على ما يبدو، لبنان يفتقر للصنف الثاني.

(*) كاتب لبناني