د. نبيل خليفه

فرنسا-ماكرون والسياسة الخارجيّة الملتبسة: من أوروبا... إلى واشنطن... إلى لبنان!

8 كانون الأول 2022

02 : 00

قام الرئيس الفرنسي أيمانويل ماكرون بزيارة رسميّة للولايات المتحدة الأميركية استقبله خلالها الرئيس الأميركي جو بايدن وتباحث الزعيمان في الوضعيّة الدولية على ضوء الصراع الدائر في أوروبا، بين روسيا وأوكرانيا وانعكاساته السياسية والعسكرية والاقتصادية على معظم الدوّل الغربية ولا سيما الأوروبية منها. ومن المقرر أن يزور الرئيس الفرنسي خلال هذا الشهر العاصمة الأردنية عمّان وأن يعرّج على لبنان عشية الميلاد لزيارة الفرقة الفرنسية في قوات الأمم المتحدة جنوب لبنان. وتأتي الزيارات المتتالية للرئيس الفرنسي إلى بعض العواصم بمثابة تمهيد منه لصياغة سياسة فرنسية متجدّدة «تأخذ بعين الاعتبار المعطيات الجديدة في العالم وتسمح لفرنسا بايجاد وضعية تؤمّن لها مزيداً من القوة والنفوذ والتأثير في قضايا العالم المعاصر ولا سيما المتعلقة بأوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، لبنان خاصةً، ومنطقة البحر المتوسط عامةً»، على أنّ محاولات الرئيس الفرنسي لم تحقق النجاح المأمول في مختلف الجهات وعلى مختلف الصعد: لماذا؟

1- إن الأسلوب الذي يعتمده الرئيس ماكرون، أي أسلوب الاتصال المباشر بالقيادات والقوى التي يتعاطى معها، من مسؤولين وغير مسؤولين، هو أسلوب حسن وايجابي نظراً لما يمثّله من تقدير لهذه القوى ولإحترام دورها في الحياة العامة للدول التي تعمل ضمنها. على أنّ نقطة الضعف في هذا الأسلوب تعود إلى المعيار الذي ينطلق منه الرئيس الفرنسي وهو عادةً معيار سياسي ملتبس يحاول أن يجمع المتناقضات وليس معياراً فكرياً عقائدياً يتميّز بالوضوح والصراحة والحسم والعزم في الخيارات بعيداً عن كل التباس ممكن فيها.

2- من المهمّ لدى مقاربة موقع فرنسا السياسي التركيز على دور فرنسا في عالم اليوم. ذلك أنّ السياسيين الفرنسيين يرفضون الاعتراف بانحسار الدور الفرنسي في النظام العالمي الجديد. ومعه أنّ فرنسا تصنّف ثالث دولة نووية (بعد روسيا وأميركا) فإنّها لم تحقق التطوّر والنمو الاقتصادي والتقني الذي يضعها في منافسة تجارية وسياسية مع دول كبرى مثل الولايات المتحدة والصين. بل إنّ ألمانيا تتمتّع بالدور الاقتصادي الأول في الاتحاد الأوروبي. هذا يعني عملياً أنّ فرنسا تستمد جزءاً من دورها السياسي وأهميتها الدولية من تراثها التاريخي العريق في الحضارة الانسانيّة. مثل هذا الدور، في مثل هذه الأوضاع المعقّدة، أصبح عبئاً عليها أكثر مما هو قوّة لها.

3- في موضوع الحرب الروسيّة على أوكرانيا يسعى الرئيس ماكرون كالعادة كي يكون على علاقة بكافة أطراف النزاع ولا سيما مع الرئيس الروسي بوتين والرئيس الأوكراني زيلينسكي مع موقف حازم ومعلن مع الأسرة الأوروبية في دعم استقلال أوكرانيا وسيادتها والتنديد بما تتعرض له من قصف وتدمير واعتداءات على منشآتها المدنية وخصوصاً على منشآتها النووية، الأمر الذي يستدعي اجراء محادثات مع المدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية رافائيل غروسي، وتعهّد الرئيس ماكرون في البيان المشترك مع الرئيس الأميركي بايدن بالاستمرار في تقديم كل مساعدة سياسية وأمنية وانسانية واقتصادية لأوكرانيا ما دام الأمر يتطلب ذلك. وانطلاقاً من أسلوبه المعروف بالتعاطي مع الأزمات الدولية، أبلغ الرئيس ماكرون الرئيس الأميركي بايدن بأنّه سيتصل بجانبيّ الصراع في أوكرانيا (بوتين وزيلينسكي) في محاولة منه للبحث في كافة المتطلبات التي تؤدي في النهاية إلى انهاء الحرب في أوكرانيا. ويبدو من تصريحاته أنّ الرئيس الأميركي لم يعترض على هذا الدور. وبالتالي فإنّ مهمته تحظى بدعم أوروبي وأميركي.

4- على أنّ ما يعنينا أكثر في سياسة الرئيس الفرنسي ماكرون هو موقفه، وبالتالي الموقف الرسمي لفرنسا من القضية اللبنانية وتشعباتها الأقليميّة ولا سيما الدور الذي تقوم به ايران وذراعها العسكرية «حزب الله» في التركيبة اللبنانية. إنّ موقف فرنسا من دور «حزب الله» في لبنان لا ينفصل عن موقف فرنسا من ايران وثورتها الشيعو- فارسية. فلقد احتضنت فرنسا الإمام الخميني على أرضها قرب باريس في النصف الثاني من السبعينات في القرن الماضي، ومنها طار لاستلام السلطة في بلاده بعد هرب الشاه في العام 1979. هذه العلاقة الوديّة التاريخيّة بين فرنسا وثورة الإمام الخميني انعكست على مختلف مكوّنات الثورة ولا سيما على «حزب الله» في لبنان. إنّ علاقة فرنسا الوديّة بـ»حزب الله» تختلف عن علاقة بقية الدول الغربية بـ»الحزب». وهو ما يقابله «الحزب» بتقدير خاص لفرنسا.

مصدر قوّة وضعف

لقد سعى الرئيس ماكرون لاستغلال هذه العلاقة التاريخيّة بين بلاده وايران من جانب و»حزب الله» ولبنان من جانب آخر. على أنّ هذه العلاقة شكّلت مصدر قوّة ومصدر ضعف لفرنسا في الوقت عينه.

• فهي مصدر قوة لأنّ فرنسا قادرة على استغلال علاقتها بايران ليكون لها دور ونفوذ واسع في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط حيث لايران دور ونفوذ، خاصة بما يتعلق بالوضع اللبناني.

• وهي مصدر ضعف لأنّ فرنسا غير قادرة على تحقيق أهدافها بدعم وحماية سيادة دول المنطقة من جانب وابقائها رهينة للهيمنة العسكرية لميليشياتها من جانب آخر، وفي مقدمها هيمنة «حزب الله» على سيادة واستقلال الدولة اللبنانية. وإذا كانت العلاقة الفرنسية بإيران و»حزب الله» ذات جذور تاريخيّة كما رأينا، فإنّ علاقة فرنسا بالجمهورية اللبنانية هي أكثر قدماً ورسوخاً في تاريخ فرنسا ولبنان. وبالأمس عيّد لها لبنان العيد المئوي لاعلان لبنان دولة سيدة حرّة مستقلة على يد الجنرال غورو المندوب الفرنسي على سوريا ولبنان عام 1920.

• لقد افتتح الرئيس ماكرون زيارته الأولى للبنان بتقديم وسام الجمهورية إلى السيدة فيروز رمز الكرامة الوطنية اللبنانية. وأصرّ على أن يعلّق الوسام بنفسه في منزل السيدة فيروز في انطلياس. هذا الأمر فسّر لدى اللبنانيين بأنه وسام تقدير لمجمل القيَم اللبنانية التي تمثلها فيروز أفضل تمثيل، لأنّها تمثّل الوطن الذي «يكبر في قلبها». بعدها كانت اللقاءات مع مختلف القوى اللبنانية في قصر الصنوبر وبينها «حزب الله». هذه اللقاءات وما يتبعها، ولا يزال يتبعها إلى اليوم تخلق اشكالاً للسياسة الفرنسية. إذ ليس المأزق في وجود صلة اتصال مع «حزب الله» في لبنان، بل هو في وضع خط واضح ومبرّر لمثل هذه العلاقة: في معناها وحدودها وانعكاسها على الوضع اللبناني الداخلي بكافة أبعاده:

فإذا كانت فرنسا غير قادرة على تعديل سياستها إزاء إيران وبالتالي ازاء «حزب الله»، فليس على لبنان الدولة والكيان أن يتحمّل نتائج هذا الموقف. وليس بامكان فرنسا أن تدّعي العمل حفاظاً على سيادة لبنان وكيانه واستقلاله.

إنّ فرنسا واقعة بين التزاماتها بالعلاقة مع إيران من جانب والتزامها بالعلاقة مع لبنان من جانب آخر. ومثل هذين الالتزامين يؤديان حتماً إلى وقوع التباس في سياسة فرنسا اللبنانية والاقليميّة. وهو ما هو حاصل الآن.. وحتى اشعار آخر!

(*) باحث جيو سياسي