باسمة عطوي

%80 من القضايا تجارية وعقارية وعمالية

إعتكاف القضاة يفاقم خسائر الأزمة المالية والاقتصادية والمصرفية

12 كانون الأول 2022

02 : 00

لا أرقام دقيقة عن الخسائر الاقتصادية، التي يتكبدها أصحاب الدعاوى المدنية والتجارية والدولة اللبنانية، نتيجة الشلل القضائي الحاصل منذ شهور، بسبب إعتكاف القضاة الذين يطالبون بحقوق مشروعة. لكن المطّلعين على هذه الدعاوى من محامين وقضاة، يقدّرون الخسائر بعشرات ملايين الدولارات، من دون أن يكون بالأمر مبالغة، لأن المعطيات التي بين أيديهم تمكّنهم من تكوين صورة نسبية عن هذه الخسائر، في غياب الدراسات التي تُعنى بهذا الجانب.

أول هذه المعطيات، أن القضايا المدنية (المتعلقة بالعقارات / الايجارات / الصرف التعسفي من العمل)، والتجارية الخاصة بالشركات، تبلغ 80 بالمئة من مجموع هذه القضايا. في حين أن القضاء الجزائي (الجرائم والتوقيفات)، لا يشكل أكثر من 20 بالمئة منها. مع الاشارة أن العديد من القضاة الجزائيين لا يلتزمون بالإعتكاف حالياً بهدف إنجاز القضايا الملحة، في حين أن القضاة المدنيين لا يزالون على إعتكافهم.

تقدير نسبي للخسائر

يشرح مصدر قضائي لـ»نداء الوطن» أنه يمكن رسم صورة تقريبية عن هذه الخسائر، من خلال عدة عناصر أولها أن «القضاء من ناحية إقتصادية هو مرفق، يحقق أموالاً كبيرة للدولة من خلال الرسوم، التي يتم إستيفاؤها من المحاكم المدنية والتجارية، ويحوّلها إلى الخزينة العامة. لأن فض النزاع بين الشركات يفرض أن تتقاضى لقاءه الدولة ما يسمى بالرسم النسبي 2.4 بالمئة»، لافتاً إلى أنه «إذا كانت قضايا النزاع بملايين الدولارات، فالرسوم غالباً ما تكون كبيرة، وهناك عشرات آلاف الدعاوى المرفوعة حالياً، والتي تنتظر البت بها على مساحة لبنان».

يضيف المصدر: «هناك أيضاً دعاوى عقارية ونزاعات بيع وتسجيل، ودعاوى ديمغرافية مرتبطة بالعمالة اللبنانية والأجنبية. فالعلاقات التعاقدية بين المشغل والاجير، يترتب عليها علاقات عمل وينتج عنها أحياناً منازعات. والقضاء يستوفي عن هذه الدعاوى أيضاً رسوماً بنسبة 2.4 بالمئة وتذهب لخزينة الدولة»، مشيراً إلى أن «قسماً من هذه الرسوم يحوّل إلى صندوق تعاضد القضاة، وقسماً آخر إلى صندوق المساعدين القضائيين. وهذا يعني أن هذه الدعاوى إذا تم البت بها بشكل سليم فإنها تغطي رواتب القضاة والمساعدين القضائيين وتحقق فائضاً مالياً للخزينة الدولة».

منذ 3 سنوات

يشدّد المصدر على أن «القضاء اللبناني لا يبت بالدعاوى التجارية والمدنية منذ ثلاث سنوات، بسبب التوقف القسري عن العمل نتيجة جائحة كورونا، ثم الإضرابات الحالية وما رافقها من إنهيار العملة. بل ينظر حالياً بالدعاوى الجزائية التي تصنف على أنها مجانية»، لافتاً إلى أن «هذا يعني أن الشركات والمتقاضين الذين يدفعون الرسم النسبي (بمبالغ كبيرة) كي يحصلوا على حقوقهم المالية، هم في حالة إنتظار مميتة. وفي حال حصلوا على حقوقهم لاحقاً فلن تكون ذات قيمة إقتصادية في ظل إنهيار العملة، وبقاء سعر الصرف على 1500 ليرة في الاحكام الرسمية، في حين أنه يزيد على 40 ألف ليرة في السوق السوداء «.

ويعطي المصدر القضائي مثالاً على ذلك بالقول: «شيك بقيمة 500 ألف دولار، كان يساوي 750 مليون ليرة قبل الازمة، في حين أنه يساوي حاليا 20 ألف دولار. وهذا يبرهن أن شلل السلطة القضائية يكبّد خزينة الدولة خسارة مداخيل كبيرة جداً تقدر بمليارات الليرات اللبنانية»، لافتاً إلى أن «الخسارة التي تلحق المتقاضين والتجار بسبب إنهيار الليرة اللبنانية تدفعهم لإجراء مفاوضات في ما بينهم، لحل النزاعات بأقل خسائر ممكنة».

تضرّر أتعاب المحامين

لا تقتصر الخسائر على الافراد والشركات، بل أيضاً المحامين الذين تضرروا لناحية قيمة أتعابهم. ويشرح المصدر ذلك بالقول: «المحامي لا يمكنه البت بالدعاوى نتيجة الشلل الحاصل، وفي الوقت نفسه لا يتقاضى كامل أتعابه من موكله إلا بعد صدور الحكم فيها والذي يمتد لسنوات، ما يعني ذوبان قيمة هذه الأتعاب، مما قد يخلق نزاعاً بين المحامي وموكله»، معتبراً أن «الأخطر من ذلك الآثار الاقتصادية التي سيتوالى ظهورها تباعاً خلال السنوات الثلاث المقبلة، فهناك عقارات تم شراؤها قبل الازمة، وتم تسديد نصف أو ربع قيمتها من قبل أصحابها، والنزاعات التي ستنشب حول قيمة الدولار الذي سيتم تسديده (1500 ليرة) أو أي سعر آخر وبأي عملة، لأن العملة الوطنية تبرئ الذمة، فلو تصدى القضاة لقضايا الناس منذ بداية الازمة، لكانت الخسائر أقل بالتأكيد».

ويشير إلى أن «تأجيل القضايا سيُراكم الملفات، ما يعني مزيداً من الارباك للقضاة في السنوات القادمة، وخسائر مليارات الليرات اللبنانية على الإقتصاد. فتعطيل القضاء منذ سنتين (500 قاض يعملون في السلك)، أدى إلى تعطيل البت بـ1000 قضية. وهذا يعني خسائر على القضاة والمتخاصمين والمحامين والدولة وزيادة التكاليف (الرسم النسبي / التنقل والقرطاسية والتبليغ)، والهدر بملايين الدولارات».



ابراهيم نجار



ضرب للإستثمارات... وحماية للمصارف!!

تقدير الخسائر الاقتصادية للشلل القضائي الحاصل، يشرحه وزير العدل السابق البروفسور إبراهيم نجار من عدة زوايا، فيقول لـ»نداء الوطن»: «إعتكاف القضاة لا يعطّل المرفق القضائي فقط، بل يؤدي أيضاً إلى إلغاء شبه شامل لمهنة المحاماة، وإلى تفشيل مصالح اللبنانيين والاجانب على حد سواء»، مشدداً على أن القضاء هو الذي يمكن ان يعطي ضمانة للمستثمر، بأن ما يستثمره في لبنان هو موضع حماية من قبله، ولذلك يبدو المرفق القضائي ضرورة لا يمكن الاستعاضة عنها، وهذا ما يطالب به البنك الدولي، وصندوق النقد وكل المستثمرين الذين وظفوا جنى عمرهم أو أودعوا أموالهم أو وثقوا بلبنان».

يضيف: «انا أفهم أن يعتكف القضاة لفترة وجيزة، وهذا يحصل في بلدان كثيرة ليس أقلها فرنسا كما شهدنا ذلك مؤخراً، لكن ان يتوقف القضاء عن ممارسة مهامه بحجة أنه لا يتلقى أجوراً كافية، وان يبقى هذا الاعتكاف أشهراً طويلة، فلا أخفي عليك أن البعض يفسر هذا الاعتكاف على أنه حماية للمصارف وللذين يتهربون من حكم القانون».

يوضح نجار أن «تنفيذ الاحكام القضائية متوقف في كل دوائر التنفيذ، والقضاء في ضياع كامل في موضوع تحديد عملة الدفع، والتسديد في نفق عميق، لا يعرف كيف يتعاطى مع الليرة اللبنانية والدولار الاميركي، وما هو سعر الصرف والاحكام باتت حبراً على ورق». مشدداً على أن «هذا وضع لم نشهد مثله إلا أيام القصف والحروب الداخلية اللبنانية وخصوصاً خلال فترة الثمانينات، وأدى في حينه إلى نشوء محاكم حزبية وهامشية، وطارئة وخارجة كلياً عن القانون».

ويلفت أن «نقابة المحامين التي أطلقت النداء تلو الآخر من أجل وقف هذا الوضع المزري، عدا عن أن طلاب الحقوق الذين يتخرجون يختارون الهجرة بكثافة غير مسبوقة. ففي كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية تخرج هذا العام 100 طالب، 73 منهم هاجروا لمتابعة دروسهم، وإيجاد فرصة عمل في الخارج».

ويختم: «هذا وضع لا يمكن أن يبقى على ما هو عليه، لأنه يجعل من المهن القضائية مرتعاً يجتهد فيه الفاسدون وفاقدو الكفاءات».



نبيل معاد



المحامون صاروا وسطاء

على ضفة المحامين يشرح المحامي نبيل معاد، (مختص في القانون التجاري) لـ»نداء الوطن» أن «المشكلة الاساسية التي يعاني منها المتقاضون لدى القضاء اللبناني، هو الوقت الكبير الذي تستغرقه البت في قضاياهم»، مشيراً إلى أن «أقل دعوى تستغرق 3 أو 4 سنوات، وقد تمتد إلى 10 سنوات. والاضراب زاد الطين بلة. وما إستجد حالياً هو من يريد رفع الدعاوى لا يمكنه ذلك بسبب الاضراب، في الوقت الذي هناك ما يسمى بمرور الزمن. بمعنى إذا إنقضى وقت معين على عدم رفع دعوى، يفقد صاحب القضية الحق برفعها للمطالبة بحقه».

ويشير إلى أن «ما يحصل أن الموكلين في المرحلة الحالية، يسعون إلى إيجاد تسويات مع خصومهم، بأقل كلفة ووقت ممكن وتلافي الدخول بدعوى. وهناك شركات لديها دعاوى بمليون دولار، لكنها تقبل التسوية مع خصومها بمبالغ أقل بكثير، وتصل المبالغ التي يتوافقون عليها إلى النصف».

يرى معاد أن «حل هذه المشكلة هو برفع الرسم النسبي على الدعاوى لدفع نفقات الجسم القضائي، شرط حصول المحامين والمتخاصمين على قضاء فعال، والدعاوى يتم البت بها خلال مهل معقولة». مشدداً على أنه «من خلال تجربته مع الشركات، يظهر أصحابها إستعدادهم لدفع رسوم تصل إلى 20 بالمئة شرط إنهاء ملفاتها، لأن المصالحات التي يقومون بها مع خصومهم تكبدهم خسارات أكبر وقد تصل إلى 50 بالمئة، من المبالغ التي يطلبونها كتعويض».

ويوضح أن «الاضراب زاد من صعوبة الوضع، على الجميع... شركات ومحامين. خصوصاً أن الشركات لا يمكنها تقديم دعاوى جديدة، وهذا ينطبق أيضاً على الافراد وهم الاكثر تأثراً، لأن من يطالب بتعويض صرف تعسفي مثلاً، عليه أن ينتظر طويلاً أو لا يمكنه تقديم دعاوى بسبب الشلل في حين أن الشركات غالباً ما تكون لديها موازنات ومؤونة».

يضيف: «المحامون يلعبون حالياً دور الوسطاء بين المتخاصمين، وبتنا أكثر تشدداً أثناء إبرام العقود التأجيرية مثلاً، إذ صرنا نطلب الدفع سلفاً لمدة 3 سنوات، تجنباً لتلافي نزاعات قضائية. وفي حال حصول نزاع نحاول التفاوض، ولو وصل الامر للتنازل عن 50 بالمئة من حقوق شركاتنا».

ويختم: «التأخير في العمل القضائي، يؤثر بشكل سلبي جداً على الاستثمار، والخسائر كبيرة على الشركات التي لم تعد تريد القيام بمزيد من الاستثمارات في لبنان أو إتباع نظام التقسيط مثلاً، كما كان يحصل قبل الازمة، فهذا الامر يخفف من أرباحها ويقلل من نشاط الدورة الاقتصادية ككل».



صادق علوية


علوية: الأخطر في انتهاء تعليق المهل!


يشير رئيس مصلحة القضايا في الضمان الاجتماعي صادق علوية، لـ»نداء الوطن» إلى أن «أخطر تبعات الشلل القضائي على الشركات والافراد هو إنتهاء مفعول تعليق قوانين المهل القضائية. فمنذ حزيران 2022 والناس التي لا تستطيع رفع الدعاوى أمام المحاكم. تخسر دينها الاساسي من دون أن يبادر مجلس النواب إلى إقرار قانون يعلق المهل مجدداً في ظل الاضراب المستمر».

يضيف: «المواطنون والشركات يدفعون ثمن النزاع القائم على الحقوق بين السلطتين القضائية والتنفيذية، من دون أن يكون هناك جهة ثالثة تحاول تعبئة الفراغ الحاصل. إذ لا يمكن المراهنة فقط على القضاء الجزائي الذي يقوم بالبت بإخلاءات السبيل، في حين ما يحصل اليوم في القضاء المدني والتجاري يحوّل كل اللبنانيين إلى موقوفين، من دون ان يعرفوا متى سيطلق سراحهم».

يضيف: «على مجلس النواب والحكومة في حال لمسوا أن الاضراب مستمر أن يطلبوا تعديل قانون تعليق المهل. لأن هناك حاجة لهذا القانون على أن تقدمه السلطة التنفيذية إلى البرلمان لحفظ حقوق الناس، بعد أن عجزت عن إيجاد حل للشلل القضائي».

ويسأل: «قانون تعليق المهل إنتهى مفعوله، وكان يطال سداد القروض للمصارف، التي إتخذت قراراً بنفسها بعدم سداد ودائع الناس، فهل يجوز ذلك في ظل عدم قدرة المواطن على رفع دعوى لتحصيل وديعته مثلاً، في حين أن المصارف مستمرة في حجزها؟».


MISS 3