جوزيفين حبشي

المغرب العربي ينتصر رياضياً و... سينمائياً

12 كانون الأول 2022

02 : 05

الممثل التونسي ادام بيسا وجوزيفين حبشي - جدة

المغرب العربي يعيش عصره الذهبي هذه الفترة، فقبل تأهّل المغرب لنصف نهائي كرة القدم ليل 9 كانون الاول الجاري، كان قد سبقه كل من الجزائر ( مع فيلم "الاخيرة"، وتونس مع فيلم " حرقة") الى تحقيق انتصارات سينمائية هذه المرة، من خلال قطف ابرز جوائز مهرجان البحر الاحمر السينمائي الدولي في نسخته الثانية المنعقدة في مدينة جدة، ليل 8 كانون الاول الجاري في فندق الريتز كارلتون.

ومن ضمن مشاركتي في مهرجان البحر الاحمر السينمائي كمديرة جلسات حوارية حول بعض الافلام المعروضة، كان لي شرف تقديم وادارة الجلسة الحوارية لفيلم "حرقة" التونسي المشارك في المسابقة الرسمية للافلام الروائية الطويلة. شريط ذكرني بواقعنا اللبناني، وهو من دون ادنى شك واحد من اجمل الافلام التي تتناول الوضع المأسوي للشباب التونسي مع البطالة والاحباط والفساد وانسداد الافق بعد اكثر من عشرة اعوام على اندلاع ثورة الياسمين التي اوقدها بوعزيزي بنفسه، مقدماً جسده قرباناً من نار، اشعل الربيع العربي كله.

بجدارة فاز مخرج الفيلم لطفي ناثان (لم يتمكن من حضور المهرجان) بجائزة افضل مخرج، أما الجائزة التي لم تشكّل مفاجأة لأحد وخصوصا لكل من تابعوا اداء شخصية علي في الفيلم، فكانت حتما جائزة افضل ممثل لبطل "حرقة" آدام بيسا. وكان من المستحيل أن يفوز بهذه الجائزة غير آدام بيسا، فكل من شاهد الفيلم، توقّع فوز هذا الممثل الاستثنائي، صاحب الموهبة "المخيفة" والقدرة على عيش حالة يأس الشباب التونسي واحباطه وانطفاء شعلة الامل في تغيير واقعه، الى درجة اشعال النار في احلامه بالوقود نفسه مصدر التجارة غير الشرعية التي يلجأ اليها بعض الشباب للاستمرار. اداء صادم، تصاعدي بامتياز، كجمر يتأجج بهدوء تحت رماد الصمت والانكسار، وصولاً الى لحظة الانفجار التي تلاها مشهد ختامي، هو واحد من اقوى المشاهد واكثرها صفعاً لنا نحن الشعوب المستسلمة لزمن القهر ولسلطات فاسدة.

انه مشهد مستوحى من احراق بوعزيزي لنفسه، وقد تم تصويره في المكان نفسه الذي شهد عملية احتراق بوعزيزي بعد انطفاء الامل في داخله. هذا المشهد المزلزل والصادم والمؤلم جداً، هو لحظة اتخاذ علي قرار اشعال النار بجسده وروحه المدمّرة التي لن تشعر بأي ألم، وسط الشارع وامام مبنى الولاية، وعلى مرأى من اناس سيمرون ولن يروا ولا حتى يلتفتوا لجسده الذي تأكله السنة النار.

اداء يبعث القشعريرة في الجسد والروح، كنت متشوقة لاكتشافه بعدما نال الفيلم اعترافاً دولياً مع فوز آدام بجائزة افضل ممثل عن دوره هذا تحديداً في مهرجان كان السينمائي ضمن فئة "نظرة ما" un certain regard.





ملصق فيلم "حرقة"


وفي دردشة مع الممثل الكبير (موهبة وليس سناً) على هامش فعاليات مهرجان البحر الاحمر، اخبرني آدام عن سعادته بتلقي ترشيح جديد عن دور علي في "حرقة" وهو ترشيح لجائزة السيزار الفرنسي. وله تمنينا ان تكون الثالثة ايضاً ثابتة بعد مهرجاني كان والبحر الاحمر. آدام بيسا الذي حضر المهرجان مع والدته روضة الفخورة به وبانجازاته، فاجأني بأنه لم يدرس التمثيل، ولكنه عشق الفن منذ طفولته، وثقف نفسه بنفسه من خلال قراءة العديد من الكتب. آدام استطاع من اول وقوف له امام كاميرا المخرجة وكاتبة السيناريو الجزائرية صوفيا جاما من خلال فيلم "السعداء"، ان يقطف ترشيحاً لجائزة السيزار. وكيف لا يقطف كل الجوائز وهو على هذا القدر من الموهبة والانصهار التام بالشخصية، مع المام بكافة تفاصيلها وخلفياتها وظروفها. اللافت ان آدام ورغم ولادته واقامته في فرنسا، لم ينقطع يوماً عن تونس.

ومن اجل الاعداد لدور علي بائع البنزين المهرب الذي يكافح بحثاً عن بارقة امل، فلا يجدها سوى بنار هي ملاذه من التهميش والوجع والظلم والاستغلال، اقام ادام الاجتماعي جداً بطبعه، لثلاثة اسابيع في عزلة تامة داخل غرفة فندق في تونس. هذه العزلة سمحت له باختبار شعور الوحدة والفراغ اللذين كانا يغلفان عالم شخصية علي. بملامح تصفعنا بحزنها وقهرها، وبعينين تشتعلان في النهاية بوقود الغضب والثورة. ايضا، لا ينكر آدام المولود في فرنسا انه على احتكاك دائم بشخصية علي، من خلال اتصاله بعائلة تنتمي الى احياء تونس الشعبية، اضافة الى ان عدداً كبيراً من اقاربه سبق ان اقدم على مغامرة الهجرة غير الشرعية. ايضا واعداداً للدور، التقى آدام مجموعة من المهربين، وتعلّم منهم اللهجة والحركة وطريقة العيش... آدام بيسا، موهبة كبيرة في الاداء التمثيلي من المغرب العربي، تجتاح ابرز المهرجانات السينمائية الدولية، مثبتة ان "الربيع السينمائي" وعلى عكس "الربيع العربي"، هو الانتصار الاهم والاقوى لشعوبنا العربية الملدوغة من الاخفاقات السياسية.


MISS 3