الكاتبة التركية إليف شفق: الأوطان لا تتعلّم دوماً من تاريخها!

09 : 48

حين نُشِرت رواية The Bastard of Istanbul (لقيطة اسطنبول) في تركيا، في العام 2006، اتُّهِمت الكاتبة بإهانة وطنها. ومنذ ذلك الحين، تزداد الأوضاع سوءاً للأسف للكاتبة التركية الأصل إليف شفق.

عندما طلب "راديو بي بي سي 4" عرض روايتي The Bastard of Istanbul في دليل "قراءة أوروبا" هذا الشهر، بدأتُ أحلل الرحلة الثقافية والسياسية التي مرّ بها بلدي الأم، تركيا، في السنوات التي تَلَت نشر الكتاب.

صدرت الرواية في تركيا في العام 2006، وهي تروي حكاية عائلة تركية وعائلة أرمنية أميركية من منظور أربعة أجيال من النساء. إنها قصة عن أسرار عائلية مدفونة، ومحرمات سياسية وجنسية، والصدام المستمر بين الذكريات المتبقية والمفقودة. بشكل عام، يمكن اعتبار تركيا مجتمعاً مصاباً بفقدان ذاكرة جماعية.

بعد وقت قصير على نشر الكتاب، رُفِعت قضية ضدي بتهمة "إهانة الهوية التركية"، بموجب المادة 301 من القانون الجنائي التركي، مع أن أحداً لا يعرف معنى "الهوية التركية" أو الإهانة" في هذا السياق. وبسبب غموض هذه الكلمات، يمكن تفسير المادة القانونية بطريقةٍ تضمن خنق حرية التعبير وحرية الصحافة. وللمرة الأولى على الإطلاق، تُحاكَم رواية أو عمل خيالي بموجب تلك المادة. استعمل مكتب المدعي العام الكلمات التي تقولها الشخصيات الأرمنية في كتابThe Bastard of Istanbul خارج سياقها كـ"دليل" في القضية. نتيجةً لذلك، اضطر محاميّ التركي للدفاع عن الشخصيات الخيالية الأرمنية في قاعة المحكمة. كانت التجربة كلها سريالية وتمّت تبرئتي في نهاية المطاف.

لكني لا أتذكر من تلك الأيام المقلقة مسار المحاكمة ولا الجماعات القومية المتطرفة التي كانت تنظّم الاحتجاجات في الشوارع وتبصق على صورتي وعلم الاتحاد الأوروبي، بل أتذكر التعليقات التشجيعية المدهشة التي تلقّيتُها من القرّاء. معظم قرّاء الروايات في تركيا هم من النساء التركيات والكرديات والعلويات واليهوديات والأرمنيات واليونانيات... تنتمي أولئك النساء إلى مختلف الأعراق والثقافات والطبقات. إذا أُعجِبت أي امرأة في تركيا بكتاب معيّن، تُمرّره لامرأة أخرى. الكتاب ليس ملكية شخصية، بل يقرأ خمسة أو ستة أشخاص النسخة نفسها، ويرسمون خطاً تحت العبارات بألوان مختلفة. صحيح أن الرجال يطغون حتى الآن على الثقافة المكتوبة ووسائل الإعلام ودور النشر في تركيا، لا سيما في أعلى المناصب، لكنّ المرأة هي من تحفظ الذكريات وتعيد إحياء مختلف تقاليد السرد القصصي.

اعتُبِرت الكلمة خطيرة في تركيا منذ منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، لكن لم يسبق أن بدا وضع الكتّاب والناشرين سيئاً أو قاتماً لهذه الدرجة. خلال العقد الأخير، بدأت تركيا تتراجع إلى الوراء. كانت وتيرة تراجعها تدريجية في البداية ثم تسارعت بإيقاع مدهش. توسّعت النزعات الاستبدادية والإسلامية والقومية والانعزالية ومظاهر التمييز على أساس الجنس، وكان كل عامل منها يؤجج العوامل الأخرى. تفاقم الوضع بعد انهيار فرصة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.وفي ظل ابتعاد البلد عن أوروبا، استغل القوميون والإسلاميون هذه الفجوة المتزايدة. بدأت النخبة الحاكمة تتكلم عن الانضمام إلى ميثاق شنغهاي بدل الاتحاد الأوروبي. اليوم، تبلغ العلاقات التركية بالاتحاد الأوروبي أدنى مستوياتها. شهدت حكومة "حزب العدالة والتنمية" تراجعاً في مظاهر الديموقراطية وتوسّعاً لنزعتها الانعزالية والمتعصبة وغير الليبرالية. في نيسان 2017، أشار استفتاء مثير للجدل وتصويت متقارب (51% مقابل 49%) إلى تحوّل تركيا من ديموقراطية برلمانية إلى دولة يحتكر فيها الرئيس رجب طيب أردوغان السلطة.



هكذا أصبحت تركيا نموذجاً صادماً لدرجة ألا يعود صندوق الاقتراع بحد ذاته كافياً لحماية الديموقراطية. وفي ظل غياب حكم القانون وفصل السلطات والحريات الإعلامية والأكاديمية وحقوق المرأة في البلد، يستحيل أن تتطور الديموقراطية أو تصمد.

اليوم، أصبح بلدي الأم منقسماً ومُسيّساً على نحو مرير وخسر فيه آلاف المفكرين عملهم. كذلك، تزداد القضايا المرفوعة ضد الأكاديميين والصحافيين والكتّاب والمفكرين والمعلّقين. حتى أن موسى كارت، أشهر رسام كاريكاتوري في تركيا، أمضى خمسة أشهر في السجن. ورغم إطلاق سراحه تحت إشراف قضائي، إلا أنه لا يزال معرّضاً للسجن طوال 29 عاماً. أصدرت "شبكة حقوق رسّامي الكاريكاتور الدولية" بياناً يَصِف المحاكمة بـ"محاولة مُحرِجة من جانب الحكومة التركية للإمعان في إحباط شعبها".الصحافة أصعب مهنة في تركيا. منذ محاولة الانقلاب الدموية في العام 2016، أُقفِل أكثر من 160 وسيلة إعلامية وانطلقت حملة تطهير واسعة النطاق. وبعد سجن أكثر من 150 صحافياً، تجاوزت تركيا السجل الصيني المؤسف، فأصبحت أول دولة تسجن الصحافيين في العالم. تعرّض آخرون للطرد أو التشهير أو وُضعوا على اللائحة السوداء أو صودرت جوازات سفرهم.

لا تَقِلّ القضايا المرفوعة ضد الأكاديميين خطورة. يجري العمل على تدمير الحريات الأكاديمية واحدة تلو الأخرى. أُقيل أكثر من 4 آلاف أكاديمي من الجامعات في أنحاء البلد. وخسر الموقّعون على إعلان السلام في العام 2016 وظائفهم، ولم يتمكنوا من إيجاد وظيفة في أي جامعة تركية أخرى. يتعرّض الكثيرون منهم للملاحقة القضائية ويُمنَعون من السفر إلى الخارج. كان اعتقال عثمان كافالا من أكثر الاعتقالات المقلقة، فهو ناشط بارز في مجال حقوق الإنسان والسلام ورجل أعمال وفاعل خير يحظى باحترام كبير في أوساط الديموقراطيين والليبراليين والأقليات في تركيا.

وفي ظل توسّع الرقابة الذاتية، انحسر الجدل المدني العام بدرجة كبيرة. تعمد مواقع التواصل الاجتماعي وأبرز وسائل الإعلام المحلية إلى استهداف شخصية جديدة ومهاجمتها كل أسبوع. يراجع "المعهد الدولي للصحافة" أكثر من ألفَي قضية منفصلة من الاعتداءات عبر شبكة الإنترنت ضد الصحافيين مباشرةً في تركيا.

في العام 2016، طرحــت الحكومة التركية قانوناً للعفو عن مغتصبي الأطفال إذا وافقوا على الزواج من الضحايا القاصرات. من الواضح أن النواب الذين اقترحوا هذه الفكرة المريعة كانوا يهتمون بالحفاظ على مفهوم مبهم من "شرف العائلة" أكثر من حياة ملايين النساء والفتيات. سرعان ما عُلّق القانون بسبب ردة فعل الناس القوية عليه.

لكن عاد النواب أنفسهم ومرروا قانوناً آخر يسمح للمفتي بعقد مراسم الزواج المدني. إنه تطور خطير في بلدٍ تنتشر فيه ظاهرة زواج الأطفال على نطاق واسع (زواج واحد من كل ثلاثة). لا مفر من أن تزيد هذه الخطوة زواج الأطفال وحالات تعدد الزوجات، كما أنها تُمكّن العائلات المحافِظة أو المتديّنة من تزويج بناتها في عمر مبكر. حين عبّرت منظمات نسائية متعددة عن قلقها من هذا القانون ونزلت النساء إلى الشوارع احتجاجاً عليه، أعلن الرئيس أردوغان أن القانون سيُمرَر "شئتم أم أبَيْتُم"!

على صعيد آخر، تتوسع ظاهرة العنف المنزلي بوتيرة مخيفة، وما من جهود جدّية لحماية النساء. يرتكز خطاب الحكومة على قدسية الأمومة والزواج. في عهد "حزب العدالة والتنمية"، انهارت حقوق المرأة بشكلٍ واضح. في الوقت نفسه، تنشر الصحف الإسلامية مقالات ضد إيواء النساء، وتطلق المنظمات عرائض لإجبار المرأة على السفر في "عربات للنساء" في القطارات، وبدأت حافلات زهرية اللون للنساء فقط تتنقل في مدن عدة.



لن يؤدي الفصل بين الجنسين إلى حصر مظاهر التحرش الجنسي ولن يكون حلاً لجولات العنف المتوسّعة. تقول غولسوم كاف من منظمة "سنوقف قتل النساء": "حين تقصد المرأة الشرطة أو النائب العام طلباً للحماية، يتم إرسالها مجدداً إلى منزلها ثم تجري محاولات لمصالحة الزوجين، أو يصدر أمر بحماية المرأة لكنه يبقى حبراً على ورق".تبدو التعديلات التي طاولت نظام التعليم مقلقة بالقدر نفسه: حُذِفت نظريات داروين مثلاً من المنهج الجديد. في بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، بلغ عدد الطلاب في مدارس الإمام خطيب 60 ألفاً، وهي مدارس لتدريب الدعاة المسلمين. أما اليوم، فيصل ذلك العدد إلى 1.2 مليون. لتجنب أسلمة نظام التعليم الوطني، ترسل العائلات الميسورة أولادها إلى مدارس خاصة، وقد ارتفعت نسبة الطلاب في قطاع التعليم الخاص من 7 إلى 20%. كذلك، تتسارع ظاهرة هجرة الأدمغة في تركيا بوتيرة غير مسبوقة.

يقرر عدد كبير من الأكاديميين والمفكرين والناشطين والصحافيين والليبراليين والعلمانيين مغادرة البلد، لكن يصرّ العدد الأكبر على البقاء. يحاول هؤلاء الحفاظ على تفاؤلهم لأن المجتمع المدني في تركيا يبدو أكثر تقدماً بكثير من الحكومة، ومن الواضح أن نساء تركيا لن يتخلّين عن معركتهنّ حتى نيل حقوقهنّ.

في النهاية، تبقى تركيا بلد التناقضات المدهشة والأرواح الشجاعة والجميلة. لكن بعد أكثر من عشر سنوات على صدور كتاب The Bastard of Istanbul، من المؤسف أن نستنتج أن الأوطان لا تستخلص الدروس من أخطائها بالضرورة. لا يتقدم التاريخ في جميع الحالات، بل إنه يرجع إلى الوراء أحياناً. بعدما كانت تركيا تُعتبر جسراً مضيئاً بين أوروبا والشرق الأوسط وقدوة يُحتذى بها في العالم الإسلامي كله، ها هي تتحول اليوم إلى بلد تعيس وغير ديموقراطي.

MISS 3