عيسى مخلوف

صورة العيش بين ثقافتَين

17 كانون الأول 2022

02 : 01

ما معنى أن يعيش المرء بين ثقافتين في عالم لا يزال يتخبّط في مشاكل الهويّة وأسئلتها والعلاقة بالآخر؟ حول هذا السؤال يتمحور كتاب صدر حديثاً في العاصمة الفرنسيّة تحت عنوان "عَيشُ ثقافتين/ كيف يمكن للمرء أن يولد فرنسيّاً وفارسيّاً؟"، للكاتب الفرنسي برتران بادي، الباحث وأستاذ العلاقات الدوليّة في "معهد الدراسات العليا" في باريس. ولقد عرفه العالم العربي من خلال الترجمة التي أنجزها الباحث والأكاديمي والمترجم جان جبّور، لبعض مؤلّفاته ومنها: "زمن المذلولين/ باتولوجيا العلاقات الدوليّة"، "لم نعد وحدنا في العالم/ النظام الدولي من منظور مغاير"، و"عندما يعيد الجنوب اختراع العالم/ بحث في قوّة الضعف".

ينطلق الكتاب الجديد "عيشُ ثقافتين" من السيرة الذاتية لكنّه يذهب أبعد منها. فهو يتحدّث عن مسار والده الذي جاء من إيران إلى باريس، في العام 1928 ليتابع دراسته، وإذا به يبقى فيها طوال حياته. يتعرّف في كلّيّة الطبّ الى فتاة من البورجوازيّة الفرنسيّة، تصبح زوجته. ونكتشف، صفحة تلو الأخرى، الصعوبات التي واجهها الوالد بخصوص مسألة الاندماج في المجتمع الجديد الذي وصل إليه، ولم تشفع به تضحياته أثناء الحرب العالميّة الثانية واستنفاره بصفته طبيباً للحالات الطارئة. وهذا ما سيختبره المؤلّف نفسه أيضاً من خلال تجربته الخاصّة، والمعاناة التي عاشها طفلاً، وكيف كان يُنظَر إليه في المدرسة الكاثوليكيّة التي كان يتعلّم فيها. لكنّ الأمور تغيّرت مع مرور الوقت حين بدأ يقترب من طبيعة العالم المركَّب حوله، ويسعى إلى تفسير العلاقات الجديدة بين منطقتَي الشمال والجنوب، كما يكتشف، شيئاً فشيئاً، معنى الازدواج الذي كان يقيم في كنفه، والغنى الثقافي والفكري الذي نتج عنه. لقد نهلَ بادي من ثقافتين غنيّتيتن، ثقافة والده وثقافة والدته معاً، فوجد نفسه في فضاء رحب يتآخى فيه الفردوسي ونظامي وسعدي، من جهة، ومن جهة ثانية، راسين وفولتير وديدرو. هكذا، أخذ من والديه الثقافة في بُعديها الجمالي والإنساني، البعدين اللذين يساعدان على الائتلاف لا الاختلاف. ضمن هذا الأفق، اكتسب طريقة أخرى في قراءته للعالم، وهذا ما مكّنه من دراسة العلاقات الدوليّة بطريقة مميّزة، بعد أن تكشّفت له المواقف المتعلّقة بالهويّة وبنفي الآخر المختلف.




يقول بادي: "عَيشُ ثقافتين لا يعني بالضرورة أن تكون لنا هويّتان، بل بالعكس، فذلك ينطوي على حظّ نادر لتجاوز تناقضات هاتين الهويّتين وما يصطدمان به من مشاكل. عَيشُ ثقافتين يعني أيضاً بلوغ الحرّية التي تسمح لنا بأن نرى أنفسنا من الخارج، وأن نقترب من النزعة الإنسانيّة التي تفقد، في الغالب، شكلها الحقيقي وراء مساحيق النزعات الوطنيّة واليقين المُطلق عند هذا الفريق أو ذاك". يستشهد بادي بعالِم الاجتماع أوغست كُونتْ الذي يقول إنّ من المتعذّر علينا أن نقف على الشرفة لنرى أنفسنا بين المارّة. "غير أنّ الذي يتكوّن بين ثقافتين، أو ثقافات عدّة، يكون بإمكانه أن يخرج من منزله الأوّل ليذهب إلى منزله الثاني، وينظر، انطلاقاً منه، إلى نفسه. ولولا ذلك، لم يكن بإمكاني أن أرى فرنسا والغرب والواقع الدولي الراهن. من المنزل الثاني أراقب نفسي وكذلك الحيّز الذي يجمع بني البشر كلّهم".

كتاب "عيشٌ بين ثقافتين" لبرتران بادي ليس سيرة ذاتية بالمعنى المألوف للكلمة. إنه تعبير عن آليّة تفكير تساعدنا على رؤية البعد الذاتي الذي يقودنا أحياناً إلى قراءة موضوعيّة للعالم الذي نعيش فيه. من خلال هذه القراءة الخاصّة، استطاع برتران بادي أن يقدّم لنا أمثولة علميّة مهمّة تكشف عن الأمراض الخبيئة التي تعاني منها مجتمعاتنا، والنظام الدولي المعاصر برمّته.

تطرَّق هذا الكتاب أيضاً إلى إحدى الأفكار الأساسية التي عالجها في كتبه الأخرى، والمقصود بها مسألة الإذلال، ويقول إنّ بإمكان الإذلال أن يتحوّل إلى عامل متفجّر خطير، خصوصاً إذا كان مُضمَراً وخفيّاً في أعماق الذات، الفرديّة والمجتمعيّة على السواء... في زمن يتزايد فيه التعصُّب، وانطواء الهويّات على نفسها وصعود الشعبويّة، يأتي هذا الكتاب دفاعاً عن فكرة التنوُّع والتعدُّد، ويشكّل دعوةً إلى التضامن بين الشعوب وتلاقُح الثقافات، من أجل خلاص الجنس البشري والأجناس الحيّة الأخرى.


MISS 3