حبيب البستاني

بين التداعيات والأسباب

24 كانون الأول 2022

02 : 00

لا يختلف اثنان على توصيف المشاكل التي يعاني منها لبنان واللبنانيون على حد سواء، من انقطاع الكهرباء وشحّ المياه وفقدان الدواء والمستلزمات الطبية، ناهيك عن فقدان فرص العمل واحتجاز أموال المودعين وسرقة ما تيسر منها إلى الهمّ الأكبر المتمثل بارتفاع الأسعار وسعر الدولار. اللبنانيون يئنون تحت وطأة كل ذلك لا سيما عشية الأعياد المجيدة، ولكن مقاربة هذه المشاكل تختلف بين من يريد استغلال وجع الناس وتوظيفه لمآرب خاصة ولمصالح شخصية وحزبية ضيقة، وبين من يضع مقاربة علمية لمختلف المشاكل محاولاً وضع الحلول الناجعة لها، وذلك بطريقة علمية وموضوعية في آن معاً.

إن لبنان ليس البلد الوحيد في العالم الذي عانى من مختلف هذه الأزمات ولكن مصيبة اللبنانيين تكمن في من لا يريد الأخذ بهذه الحلول والبدء بتطبيقها، وهذه المجموعة تؤازرها مافيا سياسية - مالية من المستفيدين الذين أمعنوا في سرقة أموال الناس ومنعوا محاسبة المرتكبين طيلة أكثر من ثلاثين عاماً، وهؤلاء لا يجدون ضيراً في نقل البارودة من كتف إلى كتف، من السوري إلى السعودي ومن الروسي إلى الأميركي ومحور طهران إلى محور الغرب وما بينهما. حتى أن بعض هؤلاء يستطيع إيهام الناس ولا سيما أتباعه بانّه يقوم بالسرقات لصالحهم وتحقيقاً لمصلحتهم.

إن هذه المشاكل تشكل تداعيات لأسباب عديدة، ليس أقلها واكثرها خطورة هو النظام الطائفي الذي يقسم اللبنانيين إلى أتباع ورعايا وليس إلى مواطنين يؤمنون بدولة المواطنة وسيادة القانون، حيث يكون الولاء للمذهب أو للطائفة وليس للوطن.

بُعيد أحداث الجبل في حقبة الـ1840 و1860 وما تبعها من تهجير ودمار وانقسامات كادت تودي بوحدة الشعب، ابتدع المعلم بطرس البستاني أبو التنوير 1819-1883 مفهوم الوطن، هذا المفهوم الذي لم يكن موجوداً فكان الحديث يدور قبله حول الإمارة والمتصرفية والدولة والأمة، ومما قاله المعلم إن الانتماء لا يمكن أن يكون إلا للوطن والولاء كذلك، ومما قاله آنذاك أن لا قيامة للبنان إلا في ظل الدولة المدنية التي يجب أن تكون أولى مداميكها إلغاء الطائفية.

فلطالما نحن نعيش في ظل نظام طائفي فلا مجال للمحاسبة ولا مجال للثواب والعقاب، فلا يمكن محاسبة المرتكب لأن طائفته ستقوم بالدفاع عنه وسيقف أرباب الطائفة سداً منيعاً يحول دون النيل منه.

تتصدر المعضلة المالية واجهة المعضلات التي يعاني منها اللبنانيون، المقيمون والمغتربون الذين عانوا من تبخر ثرواتهم وجنى عمرهم في المصارف اللبنانية، وإذا تحدثنا بصورة مجردة فإن ثلاثة أطراف لا رابع لها تتحمل المسؤولية المادية والمعنوية عن هذه الأزمة وهي: أصحاب المصارف وحاكمية مصرف لبنان ووزارة المالية. إن حلّ هذه المعضلة من المفترض أن يكون بعيداً كل البعد عن السياسة، وهو غير مرتبط لا بانتخاب الرئيس ولا بأي حدث دولي محلي أو إقليمي، وبالتالي فإن حلها يجب أن يرتكز على أسس علمية وقانونية تؤدي إلى استعادة أموال اللبنانيين وإلى النهوض الاقتصادي المرجو، وذلك من خلال وضع القوانين والإصلاحات الضرورية والبدء بتنفيذها. ولكنه وللآسف فإن أصحاب الحل والربط يربطون هذا الموضوع بالسياسة كي يتهربوا من تنفيذ الحلول والإصلاحات، وإلا فما الذي يمنع إعادة هيكلة المصارف وتصفية المتعثرة منها ودمج ما تبقى والحفاظ على تلك التي تتعهد بسداد الودائع في فترة زمنية معقولة؟

وما الذي يمنع من وضع سياسة نقدية جديدة يتعهد بتنفيذها حاكم نظيف وقادر لا تحوم حوله الشبهات وغير خاضع لمافيا المال والسياسة؟ وما الذي يمنع من الإتيان بوزير للمالية غير خاضع لأي مرجعية طائفية ويكون مستقلاً إلا عن ممارسة دوره في وضع سياسة تنقل الاقتصاد من ريعي إلى منتج؟ وما الذي يمنع المجلس النيابي من إقرار الإصلاحات المالية والنقدية وأولها الكابيتال كونترول؟

إن كل ذلك لا يمكن تحقيقه من خلال هذا النظام الطائفي الذي يقتصر دوره على حماية أبناء الطائفة وليس أبناء الوطن، لقد بات ملحاً أن نفكر جميعاً في إرساء الدولة المدنية بكل مندرجاتها لكي نتمكن من العبور بلبنان إلى مصاف الدول الحديثة.

(*) كاتب سياسي


MISS 3