عيسى مخلوف

وَجها جانوس!

24 كانون الأول 2022

02 : 01

ما هذا الكائن الذي يَتعذَّب ويُعذِّب، يُحبّ ويكره، يَستغلّ ويُستغَلّ؟ الحيوانات مرسومةٌ حياتها سَلَفاً، من أوّلها إلى آخرها، بينما لا حدود لغرائز حياته وغرائز موته. لا حدود لابتكاراته وإبداعاته في كافّة الحقول، وكذلك لجشعه القاتل وإجرامه. تاريخه دورة لا تنتهي من البناء والهدم. وهو يبني ويهدم، بالسهولة نفسها، وبالعبقريّة نفسها.

وَجها جانوس هما الوجه المزدوج في الأسطورة الرومانيّة. إله البدايات والنهايات. وجهه بوّابتان يفتح كلّ منهما على احتمال مختلف. والخلاصة: ميتات عدّة، متلاحقة، قبل أن يحين موعد الموت الكبير الذي معه تهدأ العاصفة.

ذو الوجهَين هو، هذا الكائن العجيب. هذا الصيّاد الماهر الذي لا يصطاد ليأكل وحسب، بل يصطاد شبيهه أيضاً؟ يتحكّم به ويقيّده بالسلاسل. يُجوِّعه ويذلَّه. إنه الأكثر خطورة بين الكائنات، والوحيد القادر على إفناء جنسه والأجناس الحيّة الأخرى قاطبةً. إنّ الوحشيّة المتأصّلة في نفسه لا حدود لها، بينما هي محدودة عند الحيوانات الأشدّ افتراساً، ولها بداية ونهاية. هل رأيتم حيواناً يتفنَّن في تعذيب حيوان آخر قبل ذبحه، ويبتكر آلات قتل وإبادة؟

إنّ الإشراق الذي في قلب المُزدوجِ الوجه يُجاور ظلاماً شاسعاً، ظلاماً آتياً من أزمنة سحيقة لم يتخلّص منها على الرغم من التقدّم الهائل الذي أحرزه في مجالات كثيرة. بل إنّ هذا التقدّم استفادت منه أيضاً قوى سلبيّة، وهي تستعمله في تحكُّمها بالشعوب وصناعة الأسلحة الأكثر فتكاً وممارسة الاستغلال بأدوات متطوّرة حديثة...

الجَشِعون لا يشبعون، والمُتخَمون لا ينظرون حولهم. لكنّ الأنكى من ذلك، أنّ الذي يتضوّر جوعاً، ويبحث اليوم في برميل النفايات عن كسرة خبز، لو تغيّر وضعه فجأةً، لأَصبح هو نفسه الآخر، الطاووس المُتخَم الذي لا يعير انتباهاً لأحد.

المقهور يَقهَر، و"المَمعوس" يَمعس. يكفي أن يرفع رأسه من تحت الماء ليصبح شخصاً آخر غير الذي كان! نعم، لا يمكن التعميم في هذا الموضوع ولا في سواه، لكن هذه هي الحال على العموم. صحيح أنّ هناك دائماً استثناء في القاعدة، لكنّ هذا الاستثناء لا يحكم العالم، بل هو ضحيّته الأولى.

يقول عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران إنّنا "نحمل في داخلنا، ليس الإنسانيّة والحياة وحسب، بل أيضاً الكون، بما في ذلك لُغزه الذي ينام في أعماقنا". مع تطوّر العلوم في العقود الأخيرة، أصبح الإنسان محور دراسات فكريّة وأنتروبولوجيّة ونفسيّة، تغوص في أعماق كيانه - كالمسابير التي تخترق الفضاء والمحيطات - لتدرس نوازعه وتناقضاته، ومنابع العنف التي باتت تهدّد وجوده بالذات. العنف الذي هو انعكاس لصراع المصالح والسياسات العدوانيّة، للسلطة والاستبداد، للّامساواة والتعرُّض الدائم للإذلال، هو أيضاً صورة لنوازع دفينة قد تتكشّف ملامحها الكاملة يوماً.

لا ينحصر الالتفات الى جوهر الإنسان في الجانب الفكريّ والعلميّ فقط، إنّما يطالعنا أيضاً في بعض وجوه الإبداع. ها هو الشاعر اللبناني باللغة الفرنسية جورج شحادة يراقب مشاعر الإنسان وتناقضاته، ويحكي عن الحزن الذي يملأ الأرض. في إحدى قصائده، يتحدّث عن طفل وبستان من التفّاح الأبيض، فنخاله منتصراً لعالم من الصفاء والنقاء، وإذا بصرخة، لا نعرف من أين تأتي، تعلو بين كلماته الصافية: "كمثلِ طفلٍ في تلك الأيام تضيع صرخته/ في بستان من التفّاح الأبيض". ثمّ: "عندما يُغلّف القمر بحبّه كلّ شيء/ أَحلمُ في مرآة خاوية". هكذا يكشط جورج شحادة جِلدَ السكون ليجعلنا نرى مقلبه الآخر.

وفي التفاته إلى بؤس الأوطان وإلى الحروب الأبديّة التي ترافقنا من جيل إلى آخر - هو الذي لم يكن بعيداً عن الحرب الأهليّة في لبنان وعن معاناتها - نسمعه يردّد: "ما من شيء نحبُّه إلاّ ويمضي كالظلّ/ كتلك الأرض البعيدة حيث ننسى أسماءنا./ كَمُنحدَر السَّروِ حيث ينامُ أطفالٌ من مَعدن، زُرق وموتى". أليس هو القائل أيضاً: "نُداوي الكآبة بالأسرار". كأنّه يحاول أن يداويها بالذهاب أبعد من أَسرِ الواقع، وبالجمال الذي تستهدي به كلماته التي ترفع هذا الواقع عن الحضيض، وتحوّله مطراً يتساقط خفيفاً من وراء مربّعات الزجاج.