كارين عبد النور

عشر جلسات عِجاف في 2022... لم تُسمِن ولم تُغنِ من جوع

إنتخابات الرئاسة بين الأمس واليوم: إنه الخارج يا غبي!

31 كانون الأول 2022

02 : 00

من الجلسة العاشرة
مرّت الأيام بين 29 أيلول و15 كانون الأول مملّة منزوعة دسم التشويق. عشر جلسات "رئاسية" بالتمام والكمال والنتيجة: مكانك راوح وكل عام وأنتم بخير. جلسات احتار في وصفها الأقربون والأبعدون. مسرحية أم مهزلة أم لزوم ما لا يلزم بانتظار المحتوم؟ الأرجح أن فيها شيئاً من كل ذلك. فلتذهب 2022 أدراج النسيان لعلّ 2023 تحمل الخبر اليقين. لا بل لعلّ كلمة السر تهبط من مكان ما على من يعنيهم الأمر. لكن، على الطريقة اللبنانية، عشنا وشفنا ما هو أدهى. والانتظار سيّد الموقف.

خميس ذهب وآخر أتى. أنظار اللبنانيين المرهقة اتّجهت قبل كل جلسة انتخاب وبعدها إلى احتساب الأصوات – الجدّية والفكاهية منها - وتحليل توزيعها بين المرشّحين (والمرشّحين رغماً عنهم) وتوقّع احتمالات فوز كل منهم. لكن أليست الأرقام وجهة نظر هنا؟ متى كانت عنصراً مؤثّراً إلّا من الناحية التقنية – الإحصائية البحت في العملية الانتخابية؟ وهل هي تعكس فعلاً الواقع الحقيقي في ظل هرج التفتّت الداخلي ومرج التدخّلات الخارجية؟ نسأل في الوقت المستقطع قبل استئناف أشواط الخميس.



وجه لبنان الخارجي... بالثلاجة


الباحثة في علم الاجتماع السياسي، الدكتوره ميرنا زخريّا، أشارت في حديث لـ"نداء الوطن" إلى أن المنطقة تمرّ بمرحلة إعادة رسم خرائط، بما فيها لبنان ضمناً. وهذا لبّ الموضوع، كما تقول. "لم يعد ربط الاستحقاق الرئاسي بعملية تعداد أصوات النواب عملياً، لا سيّما وأن ظروف التسويات الدولية عامة والإقليمية خاصة بدأت تتجلّى في الأفق. فعملية ترسيم الحدود البحرية الجنوبية تزامنت، مثلاً، مع عملية تشكيل سلطة عراقية صديقة لإيران".

وتضيف زخريّا أن هذا يطرح السؤال الأدقّ والأهم عن المواقف الرسمية والعلنية لكل مرشّح، حيث هو السؤال الوحيد الذي يقطع الطريق أمام الأجوبة الرمادية التي تحتمي وراء خليط من المصالح الذاتية والتمنّيات الوطنية والإمكانيات الدستورية. فكلّ مرشّح، تضيف، يستنجد في سلسلة خطاباته بالآخر عبر رسائل جوهرها إما "استرضاء" من يدعم وصوله إلى سدّة الرئاسة، وإما "استعداء" من لا يدعم هذا الوصول. المرشّحون كافة منهمكون بإعلان تباعدهم عن دولة/دول محدّدة أو تقاربهم من قضية/محور معيّن، أكثر من انهماكهم بإعلان مشروع رؤيتهم الرسمية للبنان الغد.

من المنظار الأكاديمي، "حين نتكلّم عن الرؤية الرسمية والعلنية لرئيس جمهورية لبنان ذات النظام البرلماني، فذاك يطال موقفاً شخصياً واضحاً تجاه الملفات الخلافية الأبرز وهي: القرارات الدولية وبعض مواد الدستور وصياغة خطاب القسم والتي تحتمل جميعاً أكثر من تفسير. هذا إضافة إلى أزمة اللاجئين السوريين التي تتطلّب ترحيلهم إلى بلد ثالث"، تلفت زخريّا التي ترى أيضاً أن معظم رؤساء الدول لا يأخذون القرارات بمفردهم لكنهم في الوقت نفسه يعلنون مواقفهم جهاراً ويرسمون، بناء على ذلك، وجه وتوجّه دولهم خلال فترة ولايتهم. أما في لبنان، فإذا كانت رئاسة مجلس النواب تمثّل الوجه الداخلي للبلاد حيث تشريع القوانين ومحاسبة الحكومة، فإن رئاسة الجمهورية تمثّل الوجه الخارجي له لمدة ست سنوات. وعن ذلك الوجه الخارجي اسألوا دائماً بالتحديد.



ترقيع بترقيع


عضو المجلس الدستوري اللبناني السابق، الدكتور أنطوان مسرّة، يؤكّد ويزيدنا من الشعر بيتاً. ففي دردشة مع "نداء الوطن" اعتبر أنه لم يعد مقبولاً الاستمرار في الانصياع للخارج لأن الدول تقوم بما يخدم مصالحها في حين أن اللبناني ينقصه الانتماء الوطني. وإذ وصف مجريات الجلسات الانتخابية من توزيع واحتساب للأصوات واللجوء إلى أوراق بيضاء واسترضاء مواقف خارجية بـ"الخيانة العظمى"، أكّد أن الدستور واضح في هذا المجال خاصة في المادة 49 منه التي نصّت على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة محدّدة مواصفات الأخير. ويضيف: "المطلوب منّا انتخاب رئيس دولة على شاكلة الرئيس فؤاد شهاب ورؤساء آخرين عملوا على تطبيق الدستور. على النواب أن يجتمعوا بشكل مستمر حتى انتخاب الرئيس. لكن ثمة تقاعساً كبيراً من قِبَل البعض منهم. هذا ليس رأياً ولا موقفاً إنما ما نص عليه الدستور. وإن لم يُنتخب رئيس يحترم الدستور فنحن مقبلون على ست سنوات أخرى من الخراب".

يهربون إلى الأمام ووسيلتهم مهزلة عدّ الأصوات و"تطيير" الجلسات. هكذا يحسمها مسرّة مردفاً أن عملية احتساب الأصوات تعكس ذهنية لبنانية يجب التخلّص منها لأنها السبب وراء انهيار لبنان. هي تغذّي سياسة التموضع والمسايرة وانتظار الأوضاع والظروف في حين أن هناك قضايا جوهرية أساسية تأسيسية لا يمكن غض النظر عنها". وتساءل: ألم يقل أحد السفراء الأجانب مؤخّراً "إذا بدكن تضلّوا تعتمدوا عالترقيع ما تعتمدوا علينا"؟.

لعنة الماضي تتواصل



"هل سنبقى ننتظر ما ستفرضه إيران والدول العربية والولايات المتحدة؟ هل يجوز ألّا يقوم ممثّلو الشعب بواجبهم الوطني؟". وهل، وهل وهل... يتساءل مسرّة مشيراً إلى ضرورة أن يتكرّر ما يحدث لدى انتخاب بابا الكنيسة الكاثوليكية حيث لا يُسمح للكرادلة بالخروج من الفاتيكان ويخضعون للمراقبة التي تمنع عليهم طوال فترة الانتخاب إجراء أي اتصال بالعالم الخارجي. لا بل في آخر انتخابات، بقي الجميع مجتمعاً داخل القاعة حتى انتخاب البابا فرنسيس. وخلاف ذلك، قد تستمر الأمور على حالها طويلاً، طويلاً.

"في أعقاب الكارثة التي حلّت بنا على جميع الصعد، نحن بحاجة إلى دولة مكتملة المواصفات: جيش واحد لا جيشان. وديبلوماسية واحدة لا ديبلوماسيتان. أما الماضي فليُطوَ مع التاريخ"، كما يوجز مسرّة كلامه. لكن هنا كان ويبقى مكمن الداء: ذلك الماضي الذي لا يمضي. وذلك الخارج الذي يُمعن توغّلاً... بأصوات لبنانية.



من يذكر عدد الأصوات؟ 


الظروف تتغيّر والوجوه تتبدّل. لكن ما أشبه الأمس باليوم. فالخارج كان وما زال ناخباً أول وعودة بالذاكرة إلى انتخاب الرؤساء الـ13 منذ الاستقلال تُخبر بقيّة الحكاية.

الرئيس بشارة الخوري انتُخب في 1943 وأعيد انتخابه في 1948 قبل سنة وأربعة أشهر من انتهاء ولايته بعد تعديل للدستور. وهو أتى بدعم من بريطانيا وعدد من الدول العربية المؤيّدة (سوريا، العراق ومصر) في مقابل دعم فرنسي لمنافسه، إميل إدّه. الرئيس كميل شمعون، بدوره، انتُخب في 1952 إثر إسقاط بشارة الخوري في نصف ولايته الثانية حاصلاً على دعم بريطانيا والرئيس السوري، أديب الشيشكلي، في مواجهة منافسه حميد فرنجية. أما الرئيس فؤاد شهاب، فانتُخب في 1958 بعد ثمانية أيام على بدء المهلة الدستورية بتوافق مصري - أميركي في ظل أوضاع إقليمية متوتّرة.

ونكمل. فالرئيس شارل الحلو انتُخب في 1964 بعد 27 يوماً على بدء المهلة الدستورية، بتوافق بين شهاب والسفير الأميركي في بيروت وعدم معارضة الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يفضّل حينها وزير الخارجية فؤاد عمون. من ناحيته، انتُخب الرئيس سليمان فرنجية في 1970 بعد 26 يوماً على بدء المهلة الدستورية، بفارق صوت واحد عن الياس سركيس. هنا عدد الأصوات أضيق من أن يُنسى في انتخابات قيل عنها – رغم ما يُحكى عن دعم مصري لفرنجية بعد تردّي العلاقات بين مصر والشهابيين في تلك المرحلة - لبنانية خالصة.



د.أنطوان مسرّة

د. ميرنا زخريا





وهبّت رياح الحرب المشؤومة. الرئيس الياس سركيس انتُخب في 1976 بعد تعديل المادة 73 من الدستور وتقديم موعد الانتخابات، بدعم من سوريا ومعارضة منظمة التحرير الفلسطينية. أما الرئيس بشير الجميل، فانتُخب في 1982 بعد شهر على بدء المهلة الدستورية لولاية انتهت اغتيالاً قبل أن تبدأ في ظل الاجتياح الإسرائيلي وعلى وقعه. والرئيس أمين الجميل وبعد أيام على اغتيال شقيقه خلفه وقبل يومين من انتهاء المهلة الدستورية بدعم أميركي وعدم معارضة إسرائيلية.

وصول الرئيس رينيه معوّض إلى الرئاسة في 1989، محمولاً على أكتاف اتفاق الطائف والتوافق الأميركي-السوري-السعودي، ملأ شغوراً رئاسياً منذ انتهاء ولاية الرئيس الجميل في 23 أيلول 1988 فيما وضع حدّاً مأسوياً (بدفع إقليمي- دولي، طبعاً) لتحصّن العماد ميشال عون في بعبدا. وهذه كانت ولاية أخرى لم يُكتب لها أن تنطلق ليُنتخب الرئيس الياس الهراوي في نفس العام بعد يومين على اغتيال معوّض وعلى متن القاطرة السورية التي هي نفسها أدّت إلى تعديل الدستور وتمديد ولاية الأخير لسنوات ثلاث إضافية. وأعقب ذلك انتخاب الرئيس إميل لحود في 1998 بعد 21 يوماً على بدء المهلة الدستورية محمولاً فوق الرياح السورية إياها والتي لم تكن قد استكانت بعد. وهو انتخاب استُتبع بتعديل آخر للدستور وتمديد للولاية في تكرار لسيناريو السلف.

أَفَلت "الحقبة السورية" وانتُخب الرئيس ميشال سليمان في 2008 بعد شغور رئاسي استمر منذ انتهاء ولاية لحود في العام الذي سبق وذلك بتوافق آخر إقليمي- دولي بعد مؤتمر الدوحة. وأخيراً، عاد الرئيس ميشال عون إلى بعبدا في 2016 بعد شغور متجدّد في موقع الرئاسة منذ انتهاء ولاية سليمان في 2014. ولا داعي للتذكير هنا بالحيثيّات لأنها حديثة كفاية لتكون عالقة في الأذهان. وهكذا، لم يغب الخارج عن هذا الاستحقاق يوماً. وإن تراءى لنا غيابه، فملائكته (أو شياطينه) دائماً حاضرة. فهل من يذكر عدد الأصوات؟