طوني عطية

الانتخابات البلدية والاختيارية 2023:

رئيس البلدية بين التسلّط والقيادة

13 كانون الثاني 2023

02 : 00

القصر البلدي في مدينة جبيل

«يا رئيس البلدية خطية ومية خطية، أنا شو ذنبي كل ساعة بتبعتلي البوليسية...»، عندما غنّت فيروز ونصري شمس الدين لرئيس البلدية في مسرحية «المحطة» على خشبة قصر البيكاديلّي عام 1973، لم يكن بعض دول المنطقة، قد ألف أو اختبر المجالس البلدية في الحياة السياسية والإدارية. فـ»الـريّس» كما يقال «ع اللبناني» هو من أقدم مسؤولي السلطة المحلية في لبنان، إذ يعود وجوده على الساحة، إلى العام 1846 مع تأسيس أول بلدية في لبنان والشرق الأوسط في دير القمر وتعيين بشارة أَبي غندور نعمة أول رئيس لها.

ومع تطوّر الدولة الحديثة والأنظمة الإنتخابية والإدارية، إقتحم «الريّس» الوجدان الشعبي والذاكرة الجماعية، فهو ليس أقرب المسؤولين إلى المواطنين فحسب، بل الآتي من صلبهم مباشرة، فيشعرون أنّهم معنيون بهذا الحدث الأهلي أكثر من النيابة، حتى يقال إن الإنتخابات البلدية تدور في أزقّة القرى وشوارع المدن، نظراً للتركيبة العائلية والروابط الإجتماعية، إضافة إلى العوامل الحزبية وتدخّلاتها المتفاوتة نسبياً بين بلدة وأخرى.

أمام هذه الشبكة الداخلية المعقّدة، وأسلاك البيروقراطية والروتين الإداري التي تُحيط العمل البلدي وتَحدّ من فعاليّته إلى جانب التحديات المالية والقانونية والسياسية، يبرز دور رئيس البلدية وشخصيته وصلاحياته وخصاله ومواهبه القيادية في إدارة السلطة المحلية بمجالاتها التنموية والإدارية والإجتماعية وانتظام عملها ومواجهة تحدّياتها. ولدى الحديث عن البلديات ورؤسائها في لبنان، لا بدّ من التوقّف عند بلدية جبيل ورئيسها السابق الأشهر، النائب زياد حوّاط، الذي حفر بصمته في «مدينة الحرف» وبات يضرب به المثل، كقدوة وأنموذج حيّ على أنّ النجاح ليس مستحيلاً.

بلدية جبيل

حوّاط الذي شقّ طريقه من المقرّ البلدي إلى الندوة البرلمانية، على غرار العديد من الحكام والمسؤولين في الدول المتطوّرة، أشار في حديث إلى «نداء الوطن»، إلى أنّ رئيس البلدية هو ربّان السفينة والبوصلة الأساسية في العمل البلدي، من خلال مشروعه ورؤيته وتصوّره العام، وتشكيل فريق عمل متجانس. هذه أبجدية النجاح، فهي بديهية ومعروفة وتبقى العبرة في تنفيذها.

واعتبر أنّ «هذه الشروط المطلوبة لا تتجسّد بالدرجة الأولى من دون وعي المواطنين وحسن اختيارهم في الإنتخابات البلدية، من خلال التصويت إلى لائحة متكاملة، لأنّ المجلس الذي يتكوّن من أطراف متعدّدة، مصيره الفشل، ويعني نقل المزايدات والمناكفات والمشاكل من الشارع إلى البلدية، «وبيوقع المشكل تاني جمعة» وتصبح شبيهة ببدعة حكومات الوحدة الوطنية، حيث لا وحدة ولا حكومة ولا إنتاجية».

بما أنّ العمل البلدي يحتاج إلى ديناميكية وشبكة من العلاقات يديرها رئيس البلدية، ما يجعل مكانته تطغى على المجلس وأعضائه، تماهياً مع المثل الشعبي القائل إن «البلدية رئيس وبوليس»، يرى حوّاط أن «سطوة» الرئيس لا محلّ لها في القانون، صحيح أنه رأس السلطة التنفيذية في محلّته (البلدية)، ويتمتّع بصلاحيات تسمح له باتخاذ بعض الإجراءات الإدارية منفرداً، لكنّه في المقابل يُنفّذ مقرّرات المجلس التي تخضع لتصويت الأعضاء وموافقتهم.

وجدّد تأكيده أنّ مواصفات الرئيس ومهاراته الذاتية وكيفية إدارته العمل الجماعي وخلق الإنسجام والتكاتف في ما بين أعضاء المجلس، إضافة إلى استنهاض الهمم والطاقات الشبابية في بلديته، وخلق فسحات الحوار والتفاعل بين مكوّنات المجتمع الأهلي، تُعطي الرئيس دفعاً إيجابيّاً في تحقيق مشاريعه وأهدافه، وتُعوّض عن رتابة السلطة المركزية وفشلها في تحقيق الإنماء المتوازن، وإهمالها أهمية العمل البلدي.

وعن دور العائلات والأحزاب وتأثيرها في حياة البلديات، شدّد النائب حوّاط، على أن الكفاءة، هي المعيار الوحيد الذي يجب أن يتقدّم على المعيارين المذكورين وغيرهما، منتقداً بعض الذهنيات المدمّرة للشأن العام، حيث «النكايات» والأحقاد تحرّك بعض المواطنين في تصويتهم واختياراتهم بما لا يخدم مصلحتهم وخيرهم «وبالآخر بتطلع الصرخة».

وفي تطوير العمل البلدي لناحية تحديث القوانين واعتماد النسبية أسوة بالانتخابات النيابية، ختم حوّاط مؤكّداً أنّ «اعتماد النسبية في تشكيل المجالس هي مقبرة البلديات، وتزيدها تشتّتاً وضعفاً»، وكشف أنّ اللجنة الفرعية لتحديث قانون البلديات المنبثقة عن لجنة الدفاع الوطني والداخلية والبلديات، لا تقوم بواجبها، «كأنّها لا تريد إحداث التغيير المنشود بوضع قانون عصري حديث»، مقترحاً تقصير ولاية المجلس إلى خمس سنوات، وإلغاء طرح الثقة بالرئيس ونائبه كل ثلاث سنوات، واعتماد اللوائح المقفلة من أجل وصول فريق عمل واحد ومتجانس إلى المجلس البلدي.

هاشم

من جانبه يشرح المحامي وعضو بلدية دبل مارون هاشم لـ»نداء الوطن»، أنّ رئيس البلدية حسب تعريفه القانوني هو رئيس السلطة التنفيذية، ينفّذ قرارات المجلس البلدي بعد أخذ الموافقة أو التصديق عليها من قبل السلطات المعنية والوصية على البلديات كالقائمقام والمحافظ والوزارة في حال وجوبها، كما أن القانون يمنح «الريّس» صلاحيات فعلية لجهة صرف الإعتمادات للموظّفين الثابتين وإدارة السير والشرطة، والتحرّك تلقائياً عند حدوث الكوارث لاحتوائها إلى حين انعقاد المجلس.

وعن سطوة رئيس البلدية ومحاولة هيمنته على المجلس البلدي والتحكّم بقراراته وتوجّهاته، يرى هاشم، أنّ «المسألة مرتبطة بشخصية الرئيس وطبيعة المجلس وانسجامه، ومدى معرفة أعضاء البلدية صلاحياتهم»، لافتاً إلى أنّ «بعضهم وهذا ما نراه في كثير من البلديات، غير مطّلع كفاية على القوانين ذات الصلة، إذ يستغلّ الرئيس هذه الفجوة لمحاولة فرض سيطرته عليهم».

كما لفت هاشم في هذا السياق، إلى أنّ بعض رؤساء البلديات أو الأعضاء يخضع لتدخلات القائمقام في كلّ شاردة وواردة في أعمال المجلس البلدي من خارج صلاحياته التي ينصّ عليها القانون ويرسم حدودها، مشيراً إلى أنّ القائمقام هو موظّف لدى الدولة ويتقاضى راتبه من الضرائب التي يدفعها المواطنون، في حين أنّ المجلس البلدي برئيسه ونائبه وأعضائه منتخبٌ من قبل الشعب. وتابع: «لرئيس البلدية صلاحيات تجاه الأجهزة الأمنية في نطاق إدارته، وعليه أن يبادر تجاهها وتوجيهها وليس العكس».

وعن العاملين العائلي والحزبي، يرى عضو بلدية دبل، أنّ «دور الأحزاب ثانوي في الانتخابات البلدية خصوصاً في القرى والأرياف حيث تتراجع أمام الحاضنة العائلية»، منتقداً في الوقت ذاته الجانب السلبي للعائلات المتحكّمة في تشكيل اللوائح وفرض مرشّحيها من قبل «كبير العيلة أو الوجيه»، و»كأننا في مجلس عشائري، هو يقرّر وعلى الأفراد الإلتزام بقراراته، حتى لو كانت خياراته في تحديد المرشحين لا تنطلق من معايير الكفاءة والرؤية والبرنامج».

وشدّد على أنّ «مفهوم العمل البلدي يخضع لتطوّر المجتمعات والتقنيات والتحديات الجديدة، ومقاربته بذهنية تحاكي متطلبات العصر وتحقيق التنمية المستدامة»، لافتاً إلى أنّ انتفاضة 17 تشرين، ضخّت وعياً مقبولاً خصوصاً لدى الشباب، تجسّد برفضهم أن يقرّر عنهم «رئيس العيلة» ما يريدون أو من ينتخبون، وأن رئيس البلدية هو لكافة المواطنين وليس حصراً على عائلته.

أمّا عن التحالفات الهجينة التي تقوم بها العائلات على أساس تغيير رئيس البلدية كل 3 سنوات، وتأثيرها على انهيار المجالس، ختم هاشم معتبراً أنّ القانون لا يلحظ هذا التغيير مطلقاً، بل هو «اتفاق ضمني بين الأعضاء لدى طرح الثقة برئيس البلدية ونائبه»، مضيفاً أنّ هذا العرف أو «البدعة» ينطوي على محاذير كبيرة من الناحية العملية، خصوصاً إذا كان المجلس البلدي غير منسجم، ولكلّ رئيس رؤية وذهنية مختلفتان عن الآخر، كأننا في مجلسين بلديين، فيعمد الرئيس الثاني (بعد 3 سنوات) إلى تصحيح أخطاء وتجاوزات الرئيس الأول أو العكس».

وشدّد على أن «فارق العمر واختلاف الثقافات والمقاربات بين أعضاء المجلس والدخول في لعبة الأحجام عبر التصويت لفرض قرارات لا تتناسب مع الرؤية الإنمائية للعنصر الشبابي، قد يؤدي إلى ضرب العمل البلدي والأهداف التي قام على أساسها».

في الخلاصة، تشكل البلدية الخلية الأساسية للمجتمع السياسي، ومن خلاله يبرز القادة وتُمتحن معادنهم وريادتهم في كيفية إدارة الشأن العام وتحقيق خيره، ورغم ترهّل السلطة المركزية ومؤسساتها وافتقار البلديات إلى الأموال والإمكانيات المادية، يبقى لرؤساء المجالس وأعضائها دور محوري في استنهاض الهمم والكفاءات وتغيير الذهنيات، والإستثمار في الطاقات البشرية والشبابية، واجتراح الحلول عبر الهيئات المانحة والمنظمات الدولية وغير الحكومية المعنية في تعزيز التنمية المستدامة، وعدم انتظار الحلول من الدولة، فربما لن تأتي يوماً.


MISS 3