مركز "منظمة مالطا" يستضيف سنوياً 36 مخيماً لذوي الاحتياجات الخاصة

في شبروح... لغة الحب ترسم البسمة على وجوه معذّبة

11 : 27

وسط نقاء جبل شبروح المُكَلَّل بالثلوج، والسلام الذي ينبثق من ردائه الناصع، تختلطُ مجموعة أصوات تخرق سَكينة المشهد: أغنيات على أنغام الغيتار، تمتزج مع صيحات ونداءات وقهقهات، لتلوّن المساحة البيضاء بالبهجة والفرح. وسيمفونية الأصوات هذه، مصدرُها مبنى يزيّنه علم أحمر يتوسطه صليب: إنه مركز شبروح التابع لمنظمة مالطا.

على مدى عشرة أشهر من السنة، يكون هذا المركز أشبه بخلية نحل، إذ يضجّ بمخيمات لذوي الاحتياجات الخاصة، يتولى خدمتهم خلالها متطوعون من لبنان ومختلف أنحاء العالم. ورغم تنوّع جنسيات المتطوعين، فإن هدفاً واحداً يجمع ما بين هذه المخيمات، هو رسم البسمة على وجوه معذّبة لأشخاص غالباً ما يكونون مهمّشين من عائلاتهم، وتتولى رعايتهم المؤسسات والمستشفيات النفسية. هنا، في مركز شبروح، يسمّونهم "الضيوف"، ويُكرِمونهم بالحبّ.

قبل أكثر من 20 عامًا، وُلِد مركز الحبّ هذا، بمبادرة من المتطوع الشاب في منظمة مالطا في ألمانيا فرانزيسكوس هيرمان، ومن الأب ريمون بو عاصي. ونما المشروع تدريجياً واكتسب مكانةً كبيرة وسمعة عالمية. فعدد المخيّمات ارتفع من ستّة سنوياً عام 2009، تضمّ متطوعين من جنسيتين فقط (اللبنانية والألمانية)، إلى 36 مخيمًا يحييها أكثر من 1400 متطوع من 20 دولة في العام 2019، يخدمون نحو 1000 "ضيف" من ذوي الاحتياجات الخاصة.

ويقول مؤسس المشروع فرانزيسكوس هيرمان، خلال زيارة قام بها أخيراً للبنان برفقة عائلته ومجموعة من المتطوعين الألمان، تولوا خلالها إحياء "مخيّم الأمل والصداقة" في مركز شبروح: "نشعر بأن لبنان بلدنا الثاني، وهذا المركز نعمة سماوية. سنواصل الكفاح معا، يداً بيد، من أجل مستقبل أفضل لهذا البلد الغالي".

أما السفير االبابوي المونسنيور جوزيف سبيتيري، فقال في عظته خلال القداس الافتتاحي لموسم المخيّم لسنة 2020: "بعض الكلمات تفقد معناها بفعل الإفراط في استخدامها. فكلمة الحب مثلاً، تستخدَم كثيراً، ولكنّها تجد معناها الكامل هنا، في هذا المركز، ويترجمها عملياً ما يقوم به المتطوعون الذين يخدمون ضيوف المخيمات".

ويضيف: "عندما نحبّ شخصًا ما، نشعر بالحاجة إلى أن نعرفه بشكل أفضل، وأن نصبح أقرب إليه، وهنا تكمن أهمية تجربة العاملين في مركز شبروح ، وهي تجربة سترافقهم في علاقتهم بيسوع، وفي سعيهم إلى أن يكبروا في صداقته، في الحب المخلص الذي يعطونه للآخرين. إنه الشعور الحقيقي بالتضامن والأخوّة، انطلاقاً من أننا جميعًا إخوة وأخوات، أبناء الله ."


مدرسة لتعلم الحب


روح التضامن والحب هذه، هي جوهر تجربة شبروح. ويؤكد مسؤول المشروع باتريك جبر: "هذه التجربة مُثرية لجميع المشاركين، سواء أكانوا من المتطوعين أو من الضيوف. فبفضل هذه العلاقة الوثيقة المتمثلة في القبول والتسامح والفرح والصداقة والحب، يكتشفون جميعاً قوة داخلية تحفّزهم طوال العام، وخصوصاً بالنسبة إلى المتطوعين الذين يختبرون عملياً مفاهيم روح الفريق والإدارة والقيادة، إضافة إلى كونهم يفكّرون بعمق في الامتيازات التي يتمتعون بها في الحياة. هذه التجربة تعزز الإيمان والتسامح واحترام الآخرين". ويتابع : "هذا المشروع، بالنسبة إلى هؤلاء المتطوعين، بمثابة مدرسة لتَعَلُّم الحب الحقيقي. إنها حقاً تجربة غير عادية تميّز حياتهم".ويشير المتطوع البريطاني زوركهيل إلى أن "كل متطوع ينشئ خلال المخيم رابطاً خاصاً جداً مع ضيفه، ويكون الوداع مؤثراً جدًا عند انتهاء المخيم، مع أن الفترة الزمنية التي يمضيانها معاً تكون قصيرة". أما المتطوعة اللبنانية دانييلا (15 سنة) فتقول: "ايّاً كان حجم عطائك لضيفك، فإن ما تتلقاه منه أكبر بكثير". وفي رأي البريطانية شارون، التي تملك خبرة 30 عاما في مجال العناية بذوي الاحتياجات الخاصة، أن "التجربة في مركز شبروح لا يُعلى عليها". وتضيف: "إنه لأمر مذهل. ضحكت بقدر ما بكيت. لا يمكنني أن أتخيل أنني لن أعود إلى هذا المكان. شكرا لمنحي هذه الفرصة".

ويجزم باتريك جبر بأنها "حقاً تجربة خارج هذا العالم"، لا سيما لجهة "الانفصال التام عن التكنولوجيا لصالح العلاقات البشرية والتواصل الذي يتجاوز اللغة بين المتطوع وضيفه". ويؤكد المتطوع الألماني يورغ أن هذه التجربة مليئة بدروس الحياة: "نحن نعيش في جزء جميل من العالم، حيث الحياة سهلة ومريحة. هنا نرى الوجه الآخر للعملة. فنحن نواجه حالات من الحزن الشديد أو حتى الألم". أما روبير، شقيق مؤسس مشروع شبروح، فيؤكد أن خدمة "الضيوف" توفّر له قدراً كبيراً من السلام الداخلي: "إن هذا المشروع أشبه ببيت لتعلم الحب". وعن تطوّع عائلات بأكملها للخدمة في المخيمات يقول:

"لا يوجد سن للخدمة، ولا يوجد عمر للحب. مزيج الأجيال هنا مثرٍ للجميع: فحيوية الشباب وطاقتهم تتكامل مع تفاني البالغين، وكلاهما يصنعان أجواء المخيمات. أما الأولاد المنتمون إلى العائلات المتطوعة، فيتعلمون الخدمة، مما يجعلهم متطوعين مثاليين في المستقبل".

الحب مفتاح المستقبل


وفي تقويمه لتجربته، يقول أنتون (14 عامًا) ، الذي جاء إلى شبروح مع عائلته: "يفرحني أن أرى ضيفي سعيداً. فهؤلاء الضيوف يعيشون في مؤسسات تكون مواردها البشرية محدودة، تقوم بمهمتها من خلال توفير الرعاية اليومية المستمرة لهم بقدر إمكاناتها. نحن هنا نقدم لهم فسحة من الحب والبسمة والفرح". أما أوللا، التي تشارك للمرة الأولى في مخيّم، فتقول: "إنها تجربة مهمّة، تعيدنا إلى الأساسيات. نلمس الحب حقا هنا، في كلا الاتجاهين".

هذا هو جوهر مشروع شبروح: الحب. الحب الذي يقدمه المتطوعون للأشخاص المهمّشين الذين يعانون جسدياً وعقلياً. الحب الذي تختزنه اللحظات المشتركة، بضحكها ودموعها. الحب الذي يظهر من خلال ابتسامة ممتنة، وابتسامة مُطمئِنَة، ويد حانية، وعناق بسيط. إنه الحب الكامن في خدمة الآخرين، من فقراء أو مرضى أو ضعفاء أو مُعدمين، ومن خلاله خدمة الله والصليب.ولعلّ ما يقوله أحد المتطوعين الهولنديين يلخّص أهمية ما أنجزته منظمة مالطا من خلال مركز شبروح: "إن ما يميّز هذا المركز هو كونه يمثل شعلة الأمل في عالم يزداد تعقيدا. إن التفاني لتخفيف المعاناة الإنسانية أمر حيوي، ومن خلال اللطف والمحبة والشجاعة نحفظ كرامة الإنسان. هكذا نساهم في تغيير العالم".


MISS 3