نجم الهاشم

ماراتون القيادة والرئاسة بين اليرزة وبعبدا (2 من 2)

من حنا سعيد إلى جوزاف عون: لحود وسليمان وعون... الإستثناء لا يصير قاعدة

14 كانون الثاني 2023

02 : 00

العماد جوزاف عون
خلال 55 عاماً بعد الإستقلال لم يشهد لبنان إلا وصول قائد واحد للجيش إلى سدّة رئاسة الجمهورية. عام 1998 تبدّلت الظروف وتغيّرت الدولة مع اختيار الرئيس السوري حافظ الأسد قائد الجيش العماد إميل لحود ليكون رئيس الجمهورية اللبنانية الواقعة تحت سلطة الوصاية السورية. التعيين جاء بقرار ولا يشبه أبداً وصول فؤاد شهاب. خلال 20 عاماً وصل إلى قصر بعبدا ثلاثة قادة للجيش على التوالي، ميشال سليمان بعد لحود وميشال عون بعد سليمان.




قبل اندلاع الحرب في لبنان في العام 1975 توالى على قيادة الجيش ستة قادة صار واحد منهم رئيساً. بعد الحرب توالى ثمانية قادة صار ثلاثة منهم رؤساء. لحود وسليمان انتقلا فوراً من اليرزة إلى بعبدا أمّا عون فكانت تجربته مختلفة تماماً. المرة الأولى انتقل من اليرزة إلى القصر بصفته رئيساً للحكومة العسكرية محتفظاً بقيادة الجيش وبوزارة الدفاع تاركاً وراءه تجربة مأسوية انتهت باحتلال الجيش السوري للقيادة العسكرية في اليرزة والقيادة السياسية في القصر، والغريب في الأمر أنّه اعتبر الأمر انتصاراً. وفي المرة الثانية انتقل بفعل الإنتخاب بعد 26 عاماً على هزيمته في 13 تشرين 1990 لينهي تجربته الثانية بمأساة أكبر بسقوط لبنان كله في نار جهنم والإنهيار.



العماد فكتور خوري



جراحة غير مناسبة

إنتهت ولاية العماد اسكندر غانم في 9 أيلول 1975 بعد خمسة أشهر على بدء الحرب في لبنان من دون أن يتمّ تكليف الجيش بالتدخل لوقفها. منذ العام 1969 بدا وكأنّ الجيش اللبناني خرج من المعادلة الأمنية مع توقيع اتفاق القاهرة وظهر أنّ التطورات الحاصلة على الأرض أكبر من أن يتمّ استيعاب آثارها المدمّرة على لبنان. لم ينجح تعيين اسكندر غانم قائداً للجيش في ترميم ما أصابه من ضربات في معنوياته بعد محاولة استئصال النفوذ الشهابي منه وإبعاد عدد من الضباط ومحاكمة آخرين. لقد تمّ اختيار توقيت غير مناسب من أجل القيام بجراحة غير مناسبة.

لم يكن تعيين العماد حنا سعيد قائداً للجيش في 10 أيلول 1975 قادراً على إحداث التغيير المطلوب والإنقلاب على مسيرة الإنحدار في أداء الجيش اللبناني أو إنقاذه من المصير المحتوم. أهمّ ما فعلته القيادة أنها حافظت على مقرّها في اليرزة بينما فرّخت في المناطق قيادات أخرى. هذا ما بدأ يحصل مع مطلع العام 1976 مع انشقاق الملازم أول أحمد الخطيب وإنشائه، بدعم فلسطيني، جيش لبنان العربي، واستُكمِل بعد الإنقلاب التلفزيوني لقائد منطقة بيروت العميد الركن عبد العزيز الأحدب، الأمر الذي أدّى في المقابل إلى خروج وحدات عن نطاق الطاعة لقيادة المؤسسة الأم في اليرزة دعماً للقوى المسيحية التي تقاتل على الأرض. لم تدم تجربة القائد حنا سعيد أكثر من عام ونصف. في 27 آذار 1977 تمّ إنهاء ولايته العسكرية وفي اليوم التالي تم تعيين العماد فكتور خوري خلفاً له.



العماد ابراهيم طنّوس



فكتور خوري والياس سركيس

لم يكن من المطروح وقتها أن يكون لا العماد حنا سعيد ولا غيره رئيساً للجمهورية. كانت اللعبة السياسية والعسكرية خاضعة لتدخلات أكبر حددت مسارها ومنها انتخاب الياس سركيس رئيساً للجمهورية في ظلّ معارضة القوى الفلسطينية والحركة الوطنية في مرحلة خلاف مستجد مع النظام السوري في دمشق. أراد الياس سركيس، ابن النهج الشهابي، أن يعيد وهج المؤسسة العسكرية إلى ما كانت عليه قبل العام 1969 ولكنّها محاولة كانت دونها عقبات كثيرة لأنّ الأيام والمعطيات كلّها تغيّرت في ظل وجود 25 ألف جندي سوري في لبنان وآلاف المسلحين الفلسطينيين واللبنانيين. حاول سركيس بالتعاون مع ضباط من الذين كانوا محسوبين على الشعبة الثانية وفؤاد شهاب أن يحيي دور الجيش ويعيد توحيده. حاول أن يعين العقيد غابي لحود قائداً للجيش ولكنّه لم يفلح فأعاده من منفاه الإختياري في إسبانيا إلى القصر الجمهوري رئيساً للغرفة العسكرية واستعان بالعقيد جوني عبدو فعيّنه مديراً للمخابرات. واستعان بالعميد أحمد الحاج قائداً لقوات الردع العربية ثم قائداً لقوى الأمن الداخلي بعد اعتذاره عن المهمة الأولى واكتشافه أنّ المنصب ليس إلا شرفياً. واختار بديلاً منه العميد سامي الخطيب الذي بدا وكأنّه ابتعد عن خيارات الياس سركيس واقترب أكثر من خيارات النظام السوري. لم تراود العماد فكتور خوري أحلام الرئاسة. حاول مع العهد أن يقوم بما جاء من أجله ونجح إلى حد كبير على رغم الحوادث الأمنية الكبيرة التي حصلت واستمرار الحروب وخطوط التماس. إلا أنّ القيادة في اليرزة عاد لها حضورها وإن لم يكن بالشكل الذي كانت عليه سابقاً.



عون رئيساً للحكومة العسكرية مع الرئيس أمين الجميل



ابراهيم طنوس وميشال عون

في 7 كانون الأول 1982 انتهت ولاية العماد فكتور خوري وفي اليوم التالي بدأت ولاية العماد ابراهيم طنوس. بعد انتخاب الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية كان من شبه المسلم به أنّ قراره النهائي سيكون تعيين طنوس قائداً للجيش بمهمة كبرى تتجاوز ما قام به الرئيس الياس سركيس، وهي توحيد الجيش وتسليحه وتقويته بحيث يكون القوّة الوحيدة على الأرض بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وخروج ياسر عرفات إلى تونس، وبعد سحب الجيش السوري من بيروت إلى البقاع تمهيداً لسحبه إلى سوريا. شكل الإجتياح الإسرائيلي في العام 1982 نقطة فاصلة بين مسارين كان يجب أن يكتمل الفصل بانتخاب بشير الجميل وبسيطرة الدولة على كامل أراضيها وبانتهاء الحرب وبانسحاب الجيش الإسرائيلي كما الجيش السوري.



العماد حنا سعيد



وبعد اغتياله وانتخاب شقيقه أمين بديلاً عنه تمّ تعيين طنوس قائداً للجيش وبدأ بالتعاون مع الخبراء الأميركيين في عملية إعادة تركيب هيكلية جديدة للجيش وتسليحه وزيادة عديده، ولكن هذه العملية لم تكتمل بحيث أن الحروب استمرّت وانخرط فيها الجيش بقوّة ليعود وينقسم بعد حرب الجبل وبعد عملية 6 شباط. التحوّلات العسكرية أدّت إلى تحوّلات سياسية بانفتاح الرئيس أمين الجميل على النظام السوري الذي كان من أثمانه الإطاحة بالعماد طنوس والإتيان بالعماد ميشال عون قائداً للجيش محلّه في 23 حزيران 1984.

شكلت تجربة عون في قيادة الجيش انقلاباً على دور هذه القيادة وعلى دور القائد. انتقل من المستوى العسكري إلى المستوى السياسي ليجعل من هذه القيادة مرجعية مستقلة مرتبطة بشخصه مستفيداً من التخبّط في القرار الرئاسي نتيجة خضات أمنية وسياسية، ونتيجة الخلل الذي أصاب «القوات اللبنانية» بعد اغتيال بشير الجميل ونتيجة غياب بيار الجميل (1984) ثم كميل شمعون (1987) ونتيجة تركّز القوى المقاتلة في الجيش مع الأسلحة والذخائر في المناطق الشرقية. هذا المسار الذي اختطه عون قاد إلى دمج العسكري بالسياسي وصولاً إلى طرح مخرج واحد من الحرب والفوضى عن طريق الجيش باعتبار أنه الحلّ، وعن طريق انتخاب قائده رئيساً للجمهورية. وإن لم يحصل هذا الأمر بطريقة ديمقراطية فليكن بالإنقلاب. وإذا لم يكن مثل هذا الإنقلاب ممكناً ولا كان انتخاب العماد عون ممكناً، جاءته الهدية، من دون الهداية، من حيث لا يدري من خلال مرسوم تعيينه رئيساً للحكومة العسكرية التي شكّلها الرئيس الجميل في ربع الساعة الأخير من ولايته. بدل أن يذهب العماد عون إلى التقاعد ذهب إلى مغامرة عسكرية وسياسية غير محسوبة انتهت إلى هزيمة أولى ثم إلى هزيمة ثانية.



الرئيس الياس الهراوي والرئيس إميل لحود



إميل لحود والياس الهراوي

تجربة عون في الوصول إلى السلطة لم يرتكبها أي قائد غيره للجيش. كانت أهدافه الرئاسية أو السلطوية معلنة ونافرة وعمل لها بحيث جعل المؤسسة العسكرية في خدمة أهدافه الشخصية وحرَفها عن مهمّتها الأساسية، وأبعدها عن أن تكون مؤسسة تتوالى فيها السلطة بموازاة السلطة السياسية.

المرة الأولى التي كان فيها قائدان للجيش كانت في مرحلة وجود عون رئيساً للحكومة العسكرية وقائداً للجيش عندما تمّ انتخاب الرئيس الياس الهراوي رئيساً للجمهورية وتمّ تعيين العماد إميل لحود قائدًا للجيش في 28 تشرين الثاني 1989. مسيرة لحود إلى الرئاسة تختلف عن مسيرات غيره. جاء إلى قيادة الجيش بخيار سوري ووصل إلى الرئاسة بقرار سوري. بين القيادة والرئاسة حصل على عهد لحود أنه ساهم في قرار طرد عون من قصر بعبدا ومن وزارة الدفاع ولكن التنفيذ كان على عاتق الجيش السوري في عملية بدا معها لحود أنّه مجرد غطاء في ثياب قائد للجيش. وقف يتفرّج على نقل ملفات وزارة الدفاع ومديرية المخابرات إلى سوريا ووافق على كل ترتيبات انتقال الرعاية والوصاية السورية على القرار العسكري وقيادة الجيش. وهذا ما أهّله ليكون مرشح حافظ الأسد لرئاسة الجمهورية بعد التمديد له ثلاثة أعوام في اليرزة مقابل التمديد ثلاثة أعوام للهراوي في قصر بعبدا.



العماد فكتور خوري والرئيس الياس سركيس



ميشال سليمان والثلاثية الخشبية

وصول لحود إلى قصر بعبدا أوصل العماد ميشال سليمان إلى قيادة الجيش في 21 كانون الثاني 1998. تسعة أعوام أيضاً أمضاها سليمان في اليرزة قبل أن ينتقل إلى القصر. ظروف وصوله تختلف عن ظروف وصول لحود. الأخير فرضه النظام السوري بينما سليمان فرضته تسوية الدوحة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، وبعد سبعة أشهر من الفراغ الرئاسي ومنع «حزب الله» انتخاب خلف للحود وبعد عملية 7 أيار 2008 التي نفذها «حزب الله» في بيروت والجبل، وبعدما كانت رشحته قوى 14 آذار وقَبِل به «حزب الله» كبند من بنود التسوية التي كان من ضمنها الإتفاق على تشكيل حكومة تحصل فيها قوى 8 آذار على حق الفيتو من خلال الثلث المعطل. ولكن «الحزب» سارع أيضاً على الإنقلاب على هذه التسوية وانتهت علاقته بشكل سيئ مع الرئيس سليمان الذي عمل للتوصل إلى «إعلان بعبدا» وفيه نصّ واضح على إعلان حياد لبنان. سارع «حزب الله» إلى التنصل من هذا «الإعلان» فلم يتردد سليمان في الإعلان عن رفض الثلاثية الخشبية التي تمسك بها الحزب «جيش وشعب ومقاومة»، وهذا الإفتراق الكبير جعل «الحزب» يضع تجربة سليمان في خانة المحظورات بحيث صار يعطيه مثلاً عن الرئيس الذي لا يريده لأنه طعنه في الظهر.



الرئيس ميشال سليمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي



رئاسة عون بقوة تفاهم 6 شباط

وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا في العام 2016 لم يكن له علاقة بكونه قائداً للجيش. لم ينتقل من اليرزة إلى القصر بل من اتفاقه مع «حزب الله» في 6 شباط 2006. لذلك تبدو تجارب لحود وسليمان وعون مختلفة عن بعضها ولا يمكن أن تقود إلى محاولة تثبيت معادلة حتمية الإنتقال من القيادة العسكرية إلى موقع القيادة السياسية، لكي تكون بمثابة تخويف من تكريسها لمنع وصول العماد جوزاف عون إلى القصر. لو كانت هذه المعادلة صارت ثابتة لكانت أوصلت العماد جان قهوجي إلى بعبدا. خلف قهوجي سليمان في قيادة الجيش في 29 آب 2008 ولكنّه خرج من القيادة إلى التقاعد ولم تطرح مسألة انتخابه رئيسًا للجمهورية على رغم الفراغ الذي نشأ بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان. عندما انتُخب عون رئيساً أراد أن يضع يده على قيادة الجيش من خلال تعيين ضابط محسوب عليه في القيادة. ولكن حسابات الحقل معه لم تصح على حسابات البيدر. في 8 آذار 2017 صار العماد جوزاف عون قائداً للجيش ولكن سرعان ما برز الإختلاف بين هذه القيادة وبين رئاسة عون. أراد قائد اليرزة أن يكون دور الجيش شاملاً من دون جيش آخر رديف بينما أراد رئيس القصر أن يكون «حزب الله» هذا الجيش الرديف معتبراً دائما أنّ الجيش الشرعي الوحيد غير قادر وأراد أن يكون الجيش وقائده معاً في خدمته. عون الرئيس بين 2016 و2022 كان نقيض عون قائد الجيش بين 1984 و1990 عندما خاض حروبه المدمرة تحت عنوان بندقية الجيش وحدها تحمي لبنان، وشنّ الحرب على «القوات اللبنانية» بحجة أنّها ميليشيا وسلاحها غير شرعي وغطّى منذ 6 شباط 2006 سلاح «حزب الله» واعتبر أن دوره شرعي، ووقف قبل انتهاء ولايته وبعد خروجه من بعبدا ضدّ طرح احتمال أن يكون قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية، بحجة أنه لا يملك مشروعاً رئاسياً وأنه هو الذي قاد الإنقلاب على العهد نتيجة تصرّفه الواعي في عدم قمع ثورة 17 تشرين. خلال قيادته للجيش لم يتصرف جوزاف عون كما تصرّف ميشال عون. لم يجعل المؤسسة في خدمته. ظروف قيادته للجيش تختلف عن ظروف قيادة ميشال عون. بين العام 1984 والعام 2017 مسافات في الزمن وفي السياسة وفي الأمن وفي تركيبة الجيش. الإنهيار الذي يعيشه لبنان اليوم بعد ستة أعوام من رئاسة ميشال عون يحتاج إلى منقذ كفؤاد شهاب، الذي كان انتقاله من قيادة الجيش إلى رئاسة الجمهورية استثناء لا قاعدة. فهل يصح هذا الإستثناء مع جوزاف عون؟