عيسى مخلوف

هوميروس قارئُ أيّامنا

14 كانون الثاني 2023

02 : 01

هوميروس عازفاً... للفنّان الفرنسي رومان بريت

لا تتوقّف الحروب، وهي، منذ قديم الأزمنة، ترافق البشريّة كظلّها. الحرب الأوكرانيّة تزداد اشتعالاً. في الأيّام الأخيرة تضاعف عدد القتلى والجرحى، وازداد الدمار. في القرن الحادي والعشرين أيضاً، جروح الشرق الأوسط لا تندمل. جروح عميقة فاغرة تنتقل من زمن إلى زمن ومن جيل إلى جيل. مقابل ذلك، تزداد الكوارث البيئيّة والتغيّرات المناخيّة، ولا يزال حلماً القضاءُ التامّ على المجاعة، بينما دول العالم ترفع ميزانيّات التسلّح وتتأهّب لحروب طويلة الأمد.

هناك كُتبٌ عرَفت كيف تؤرّخ أيّامَنا على الأرض، وهي لم تكشف ما حصل في الماضي وحسب، بل ما يحصل الآن أيضاً، وما سوف يحصل في المستقبل القريب والبعيد. من هذه الكتب "الإلياذة" و"الأوديسة". هوميروس الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد قدّم لنا في هاتين الملحمتين إحدى خلاصات النفس البشريّة، تلك النفس التي تخشى الحروب، ومع ذلك تُقبل عليها بنَهم. مع هذا الشاعر الإغريقي رأينا كيف يفترس البشر بعضهم بعضاً، وكيف أصبحت أناشيده المكتوبة بلغة ملحميّة مدهشة، مرايا نرى فيها وجوهنا وصراعاتنا التي لا تنتهي. ونرى فيها أيضاً الوجه الحقيقي للإنسان في شقّيه المبدع المتنوِّر والقهّار الجبّار.

يعبّر هوميروس عن دهشته من قدرة الإنسان على محاربة شبيهه رغم معرفته المسبّقة بأنّ مصيرهما واحد. الحرب، في هذه الحال، تأهُّب دائم للقتال واستباق الموت المحتوم. من هنا، يرى صاحب "الإلياذة" أنّ في استطاعة هذا الكائن أن يفعل ما لا يفعله أيّ وحش على سطح الكوكب، الأمر الذي دفع الشاعر إلى القول: "لا شيء يستحقّ النواح والتحسُّر أكثر من البشر، بين جميع الكائنات الحيّة التي تدبّ على الأرض".

قراءة هوميروس تشبه الإبحار فوق الأمواج العاتية. هنا، تنفتح الأزمنة على بعضها. تنزاح الأبواب والمغاليق ليتكشّف وجه الإنسان في عرائه الكامل. بسبب النزاعات والحروب، يصبح البحر، هو كذلك، أرضاً للقتال. هنا يلتقي غضبُ الطبيعة بغضب الإنسان، ويسود الخوف: نقرأ في "الأوديسة": "كدنا نتجاوز الجزيرة، عندما رأيتُ فجأةً أمواجاً، وأبخرةً، وأحسستُ بضربات صمّاء./ ومن أيادي شعبي المُرتَعِب، طارت المجاديف بعيداً".

وسط الظلمات التي يصفها هوميروس، نتعرّف أيضاً إلى الضوء الحقيقيّ، وإلى أنفسنا. نتساءل عندما نقرأه من أيّ نبع نهلَ أناشيده وكيف اهتدى إليها؟ وهذه الموسيقى الطالعة من كلامه، أيّ نور في قلبه جعله يرى ما لا يراه إلاّ العميان المفتوحة عيونهم على الداخل، وهو الأعمى البصير! نقرأه اليوم كأنّه انتهى يوم أمس من كتابة تحفته الأدبيّة. وهل هي تحفة أدبيّة أم مكتبة قائمة بذاتها؟ مكتبة تؤرّخ لزمنيّة الإنسان وللأغلال التي تقيّد وجوده، والتي لم يعرف حتى الآن كيف يتخلّص منها.

يتأمّل هوميروس الضوء، ويحيّي الغابات وما تكتنز به من إمكانات هدوء وسلام، ويحنّ على النبات والحيوان، وعلى البيئة الطبيعيّة بصورة عامّة. كأنّه كان يستشرف ما سيحلّ بهذه البيئة مع مرور الأيام وصولاً إلى يومنا هذا. لقد كانت غاباته التي تعانق الأرض والسماء - بخلاف الغابة المظلمة التي وصفها دانتي أليغييري في كوميدياه الإلهيّة - واحدة من محميّات الروح. وكانت رؤيته لها، بهذا المعنى، قريبة من رؤية الهنود الحمر الذين نظروا إليها بصفتها "فُرجة مُضاءة"، إن استأصَلَها الطامعون، ستبقى "مقدّسة في ذاكرة شعبهم".

لكن، في قلب الأناشيد التي تروي حياة الإنسان وموته، صخبه الذي يهزّ الأرض والسماوات، هنالك ما يشبه البرق الذي يخترق الظلام، أو منارة تلوّح من بعيد للسفن التائهة، تطالعنا في عبارة نستلّها من "الأوديسة": "ما زال بإمكاننا تَجَنُّب وصول اليوم القاتل"، والمقصود به: اليوم الذي ينتهي فيه كلّ شيء! لعلّنا نتجنّبه لو تمعّنّا في كلمات هوميروس الآتية: "مثل سلالات الأوراق، مثل أجناس البشر،/ تسقط، أحياناً، تحت الريح، وأحياناً تتكاثر ولا تُحصى،/ تحت كثافة الغابات،/ هكذا الأجيال: بعضها ينمو، وبعضها الآخر يتلاشى ويمَّحي".

ثمّة كُتب تساعدنا على فكّ اللغز وإيجاد لحظة سكون داخل العاصفة. هذه الكتب لا نقرأها وحسب، بل نمرّغ وجوهنا في عتَباتها ونُسرّ إليها أسرارنا الحميمة. نستمدّ منها القوّة أيضاً، لأنّها تشرّع أبوابها على المخيّلة الخافقة كجناحَي كبير الملائكة، ذلك الذي كلّما حلّقَ وارتفع، أعاد ابتكار الفضاء.


MISS 3