توفيق كسبار

لا علاقة لأزمة البنوك الحالية بمستوى الدَّين الحكومي

دليل الانتفاضة عن حقيقة الانهيار المصرفي

31 كانون الثاني 2020

02 : 00

نعيش حالياً أخطر صدمة منذ إنشاء دولة لبنان الكبير، وهذه الصدمة لا تكمن في هَرَيان السلطة السياسية أو في انهيار سعر صرف الليرة بل في تزعزع الجهاز المصرفي الذي يضع لأول مرة في تاريخه قيوداً صارمة على سحب الودائع أو على تحويلها إلى الخارج، ويجمّد بشكل شبه كامل عمليات الإقراض. إن تزعزع الجهاز المصرفي، أي مصرف لبنان والمصارف التجارية، هو حدث بالغ الخطورة لأن المصارف في أساس كل المبادلات التجارية ومع الخارج، وبالأخص في اقتصاد صغير ومنفتح كالاقتصاد اللبناني.

صحيح أن الجهاز المصرفي نجح بالإكراه في تقنين خروج العملات الأجنبية من لبنان، إلا أنه وفي المقابل أصبح دخول الرساميل شحيحاً جداً مما يضع الاقتصاد بكل قطاعاته على مسار انتحاري. لذلك فإن إنقاذ الجهاز المصرفي يجب أن يكون من دون منازع الهدف الأول الذي على السلطة السياسية أن تحقّقه سريعاً. إنقاذ المصارف في هذه الحالة يعني أن تعود إلى مسار شبه طبيعي بحيث يزداد مع الوقت حجم السحوبات من الودائع المسموح بها، أو على الأقل لا يتناقص، والتفعيل التدريجي للتسهيلات المصرفية للمؤسسات التجارية بحيث تنتعش تدريجياً الحركة الإنتاجية والاقتصادية عامة.

كيف وصلنا إلى هنا؟

لكي نفهم أسباب الكارثة علينا في البداية أن نميّز بين الحدثين، انهيار الليرة وانهيار المصارف، لأن الأسباب مختلفة تماماً وليس من المحتّم أن يترافق انهيار سعر النقد مع انهيار مصرفي كما هي الحال الآن. وبالفعل، فانهيار الليرة في ثمانينات القرن الماضي تزامن مع وضع مالي قوي جداً للمصارف استمر خلال فترة الحرب اللبنانية كلها. فإذا رجعنا إلى السنتين 1986-1987، وهي فترة الانهيار القوي في سعر صرف الليرة، فقد انخفضت الليرة آنذاك تجاه الدولار من 16 إلى 225 ليرة! لكن المفارقة هي أنه، في الوقت نفسه وخلال كل الحرب التي كانت دائرة منذ عام 1975، لم توضع أي قيود على أي سحوبات أو تحاويل أو أي عملية مصرفية، مهما كانت قيمتها وعملتها.

أما سبب تلك المفارقة فبسيط وواضح: خلال تلك الفترة كانت نسبة السيولة بالدولار لدى المصارف المحلية، أي أموالها بالدولار المودعة في المصارف الأجنبية الكبرى نسبة إلى مجمل الودائع لديها بالدولار، كانت هذه النسبة حوالى 90%، وبقيت على حالها خلال كل زمن الحرب تقريباً. وهذه نسبة ليست استثنائية بقوتها فحسب بل غير مسبوقة في أي بلد. أما قبيل الانهيار الأخير في صيف 2019، فكانت نسبة السيولة هذه تقريباً 7% فقط (سيولة 9 مليارات دولار مقابل 120 مليار دولار ودائع بالدولار)، علماً أن نسبة سيولة المصارف كانت تنحدر بتواصل منذ 2010 على الأقل، حين كانت في آخره تناهز 23%. وهنا يكمن السبب الأول والرئيس للانهيار المصرفي القائم، وأرقامنا كلها تستند إلى مصادر رسمية.

لذلك فلا علاقة على الإطلاق للانهيار المصرفي الحالي بمستوى الدَين الحكومي، وهذه لازمة تُكرّر باستمرار لحرف الأنظار عن مسؤولية وكلفة السياسة النقدية، التي لا نزال ندفع ثمنها الباهظ. فارتفاع قيمة الدَين الحكومي باستمرار، خصوصاً لتمويل النفقات الجارية بدل النفقات الاستثمارية، له دور مباشر في هبوط سعر صرف الليرة ولكن ليس في الانهيار المصرفي.

كيف وصلت المصارف إلى هذا الوضع؟ لقد بدأ مسار الانهيار المصرفي مع ما يُسمّى الهندسات المالية لمصرف لبنان، والتي تعني عملياً دفع مصرف لبنان للمصارف فوائد باهظة لحثّها على تحويل سيولتها بالدولار من المصارف الأجنبية لإيداعها في مصرف لبنان، والتي تقدّر بأكثر من 85 مليار دولار، حيث لم تعد "سيولة" فعلية. فهوامش أسعار الفائدة نسبة إلى الفوائد في الأسواق العالمية التي دفعها مصرف لبنان في البدء كانت حوالى 5% وتجاوزت 9% في الأشهر الماضية، بدلاً من أن يدفع هامشاً لا يتعدّى جزءاً من 1% فقط كما هو نمط الاستدانة بين المصارف. علاوة على ذلك، لم يحقق مصرف لبنان أياً من الأهداف المعلنة لهندساته المالية، بل على العكس تراجع احتياطي العملات الأجنبية لديه وبات ميزان المدفوعات يسجّل عجزاً متواصلاً، وتدهور الوضع المالي للمصارف وللجهاز المصرفي برمته.

لذلك فالمسؤولية الأولى والمباشرة عن الكارثة التي حلّت بكل الجهاز المصرفي، الذي استغرق بناؤه قرناً من الزمن، تقع على سياسات مصرف لبنان المتهوّرة وعلى المصارف التي فشلت في حماية ودائعها كما فعلت في الماضي وفي ظروف أصعب بكثير. والسؤال البديهي في هذا السياق هو: خلال كل ذلك المسار الانهياري المصرفي الواضح منذ سنوات، أين كان مجلس الوزراء لمساءلة مصرف لبنان؟ أين كان مجلس النواب لمساءلة مصرف لبنان كما كان يفعل في الماضي حتى خلال سنوات الحرب؟ أين كانت لجنة الرقابة على المصارف؟ وبالأخص أين كانت وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة المأخوذة بتبخير حاكم مصرف لبنان بشكل مستمر ومستغرب؟ وبالفعل، فالسلطة النقدية في لبنان لم تواجه أي سؤال أو تخضع لأي مساءلة من أي جهة منذ تعيينها في عام 1993!

من التصحيح السريع إلى الإصلاح الجذري

نقترح ثلاثة إجراءات سريعة لوضع المسار المصرفي والنقدي، وقاعدة النشاط الاقتصادي عامة، على مسار التحسّن التدريجي بدل الإفلاس التدريجي. وهذه الإجراءات تعتمد على قراراتنا وقوانا الذاتية، حيث أن أي مساعدة خارجية تكون بمثابة دعم وتسريع للنشاط الإصلاحي.

أولًا، على السلطة أن تنجز سريعاً موازنة عامة للسنوات الثلاث 2020-22 تلحظ تناقصاً تدريجياً للعجز يقارب تحقيق التوازن، مما يدعم ثقة الأسواق والحكومات الأجنبية بجدّية المسار الإصلاحي. هذا إنجاز ممكن إذا أرادت السلطة أن تكون فعلياً سلطة إصلاحية. فعلى سبيل المثال، يمكن عودة العمل بنظام حساب الخزينة الموحّد الذي يقضي بإعادة الودائع النقدية لجميع المؤسسات العامة من المصارف إلى حساب وزارة المالية في مصرف لبنان. لقد بلغ متوسط هذه الودائع في المصارف خلال عام 2019 ما يعادل 4.7 مليارات دولار، ويمكن تالياً تمويل عجز الموازنة داخلياً من هذه الودائع بوفر كبير من دون الحاجة إلى الاقتراض من الأسواق المالية.

ثانياً، يجب تحرير سعر صرف الليرة مما يعزّز دخول الرساميل من جديد، علماً أن للسعر الرسمي الثابت المعتمد تأثيراً محدوداً لا بل ذا ضرر أكبر بكثير من أية منفعة. أخيراً، مع تحسّن الوضع المصرفي بعد تلك الإجراءات، على المصارف زيادة رساميلها بأكثر من اﻟ 20% الملزمة، وإعادة تفعيل التسهيلات المصرفية، الصناعية منها خاصة، والزيادة التدريجية في سقف السحوبات من الودائع. وباستطاعة السلطة التفاوض مع المصارف بخصوص هذه الالتزامات المصرفية مقابل إضفاء غطاء قانوني على القيود المصرفية القائمة يطمئن المصارف من ناحية تعرّضها لدعاوى أمام المحاكم في لبنان والخارج. أما بخصوص الإصلاح الجذري فعلينا أولاً الإقرار بأن لبنان لا يزال تحت الاحتلال منذ نصف قرن بالتمام، تحديداً منذ اتفاق القاهرة عام 1969. لقد انتقلنا من احتلال فلسطيني إلى احتلال سوري ثم إلى احتلال إيراني، إنما هذا الأخير بواسطة لبنانية هي "حزب الله"، وهنا المشكلة. والاحتلال يبطل حكماً نظام المحاسبة والنظام الديموقراطي برمّته، كما هي الحال في لبنان. إن الربط العضوي لسياسة لبنان الخارجية وسياسته الأمنية بمحور إيران المعادي للدول العربية، التي هي المحيط والمتنفس الاقتصادي الطبيعي والتاريخي للبنان، كما للعالم الغربي أدّى وسوف يؤدّي حتماً لمزيد من الانهيار والبؤس. وللتذكير، ورغم كل ما يُقال عن فساد السلطة اللبنانية منذ الاستقلال، إلا أن تلك السلطة أنتجت دَيناً على الدولة يوازي صفراً حتى بدء الحرب اللبنانية في عام 1975، ومن ثم من أدنى الديون العامة في العالم عند انتهاء تلك الحرب، وهذا وفق إحصاءات البنك الدولي.

لم أقرأ أبداً أو أسمع باحتلال جيّد. ومن المستحيل أن يولّد الاحتلال، أي احتلال، استقراراً أو ازدهاراً. إن انطلاقة الاستقرار والازدهار لن تكون، ولا يمكن أن تكون، إلا بدءاً باستعادة السيادة. وأملنا الوحيد المتبقي هو في هذه الانتفاضة الرائعة والتاريخية الواعدة، بنسائها ورجالها، على أن يأتي يوم يكون فيه عيد الاستقلال يوم 17 تشرين الأول.

MISS 3