تحالفات ثنائية غريبة في السياسة الأوروبية

11 : 27

قد تنجح أحزاب غير متوقعة في تشكيل حكومات ائتلافية، لكن هل تستطيع أن تحكم بلدانها؟ تقدّم الشراكات الجديدة التي تجمع "ثنائيات غريبة" (المحافظون/حزب الخضر؛ الاشتراكيون/اليسار المتطرف) وجوهاً مختلفة للناخبين وتترافق مع بعض التغيرات الواعدة في السياسات المتّبعة. لكن من المستبعد أن تنجح في حل المعضلة الديموقراطية الكامنة وراء النزعات الشعبوية والاحتجاجات السائدة في بلدان متعددة. يُعتبر وصول شخصيات شابة تحمل أفكاراً مختلفة إلى أروقة السلطة مجرّد جزء بسيط من التغيير الذي تحتاج إليه أوروبا لتجنب التهميش والسخط الشعبي وانتشار سياسات قبيحة مبنية على الهوية الفردية.



من المتوقع أن يستمر نزيف السياسات القارية إلى أن يتخذ صانعو السياسة التدابير اللازمة لكبح توسّع اللامساواة في المداخيل والثروات، وتجديد الاستثمار في المناطق الكئيبة، وإيجاد الطرق المناسبة لتفعيل مشاركة المواطنين في العملية السياسية.

خلال هذا الشهر وحده، عقدت إسبانيا والنمسا تحالفات حاكمة جديدة بين أطراف سياسية غير اعتيادية. يَصِف البرتغاليون هذا النوع من التدابير بعبارة "تركيبة غريبة الشكل".

بعد استحقاقَين انتخابيّين غير جازمَين، صادق البرلمان الإسباني على أول حكومة ائتلافية في البلاد منذ إعادة ترسيخ الديموقراطية خلال السبعينات. حصد حزب "بوديموس" اليساري المتطرف (يشتق من حركة "الغضب" الاحتجاجية والمعارِضة لسياسة التقشف) خمس وزارات باعتباره الشريك الأصغر للاشتراكيين اليساريين الوسطيين بقيادة رئيس الحكومة بيدرو سانشيز. سترتكز حكومة الأقلية على تشكيلة تجمع بين الأحزاب الإقليمية والانفصالية، وهذا ما يجعلها غير مستقرة منذ البداية.وفي النمسا، نشأت للمرة الأولى حكومة "سوداء وخضراء"، حيث وصل حزب "الخضر" البيئي إلى السلطة واحتل المرتبة الثانية بعد "حزب الشعب" المُحافِظ "الأسود" بقيادة المستشار سيباستيان كورز. يظن عدد كبير من علماء السياسة أن الوضع النمساوي هو أشبه بِحَقل تجارب، تمهيداً لتشكيل أول حكومة ائتلافية اتحادية محتملة بين "الاتحاد الديموقراطي المسيحي" وحزب "الخضر" في ألمانيا، أقوى عضو في الاتحاد الأوروبي، بعد إجراء الانتخابات العامة المرتقبة في العام 2021.لا يعتبر الكثيرون في ألمانيا الدولة النمساوية المجاورة لهم نموذجاً يُحتذى به، لكن سبق وتعاون حزب "الخضر" والمحافظون على مستوى الدولة في ألمانيا، حتى عندما استلم حزب "الخضر" الإدارة الإقليمية في "بادن فورتمبيرغ" ونجح في مهامه.

تَعِد التشكيلات الجديدة الإسبان بزيادة قوتهم الشرائية بعد عقد قاسٍ من التقشف والبطالة، وتعطي النمساويين فرصة قيادة أوروبا في معركتها ضد التغير المناخي من خلال الالتزام بالخطة الرامية إلى التخلص من انبعاثات الكربون بالكامل بحلول العام 2040.تتماشى هاتان الوجهتان السياسيتان مع أهداف المفوضية الأوروبية الجديدة برئاسة أورسولا فون دير لاين، فقد أصبح "الاقتصاد الذي يفيد الناس" واتخاذ خطوات جريئة لمحاربة الوضع المناخي الطارئ عالمياً على رأس أولوياتها.

كذلك، يبرز قاسم مشترك آخر بين الاتفاقَين، فقد كسرا وضع المراوحة السياسية وشكّلا حكومات موالية لأوروبا تزامناً مع إبقاء الأحزاب القومية واليمينية المتطرفة والمعارِضة للمهاجرين خارج السلطة.تحققت نتيجة مشابهة في إيطاليا خلال الصيف الماضي، حين تعاون "الحزب الديموقراطي" اليساري الوسطي للمرة الأولى مع حركة "خمس نجوم" المتطرفة والمعادية للسلطة، بعدما قضى ماتيو سالفيني، زعيم حزب "الرابطة" اليميني المتطرف، على الحكومة السابقة. لكن لا أحد يعلم إلى متى سيصمد هذا الائتلاف الجديد الهش في ظل أداء سالفيني الصاخب.أمام هذه التحالفات الغريبة كلها، لا بد من التساؤل: ماذا سيحصل في المرحلة المقبلة؟

لا شك في أن مشاركة أعضاء حزب "الخضر" واليساريين المتطرفين في وزارات لا تتحكم بالوضع المالي لن تُقنِع الناشطة البيئية السويدية الشابة غريتا ثانبيرغ بالعودة إلى المدرسة في أيام الجمعة بدل أن تقود تظاهرات عابرة للمناطق احتجاجاً على عدم فاعلية الإجراءات الحكومية لإنقاذ كوكب الأرض.حتى أن هذه المشاركة لن تنجح في تهدئة مخاوف الناس والمجتمعات التي تشعر بأنها باتت متروكة نتيجة تراجع الصناعات التحويلية التقليدية، أو معالجة نزوح سكان البلدات الصغيرة والمناطق الريفية، أو انتشار أعمال خطيرة وقليلة الأجر، أو زيادة المنافسة على الوظائف بسبب توافد المهاجرين، أو بقاء ملفات الإسكان والخدمات العامة في أسفل السلم الاجتماعي.

في البرتغال، نجح رئيس الوزراء أنطونيو كوستا في تأليف تشكيلته الغريبة، وهي عبارة عن حكومة أقلية اشتراكية تتلقى دعماً خارجياً من الكتلة اليسارية المتطرفة والحزب الشيوعي. لقد رفع مستوى المعيشة وخفف سياسة التقشف تزامناً مع إعادة التوازن إلى الميزانية بفضل ازدهار اقتصادي امتد على أربع سنوات، وفاز بولاية جديدة بكل سهولة في شهر تشرين الثاني الماضي.

كقاعدة عامة، تُعاقَب الأحزاب المتطرفة التي تتنازل للمشاركة في الحكومات بصفتها أصغر الشركاء في الانتخابات. في المقابل، تحافظ الأطراف التي تبقى في معسكر المعارضة على رصيدها الانتخابي بسهولة، حتى لو دعمت حزباً نافذاً.

من الأصعب أن يطلق الطرف نفسه احتجاجات ضد "النظام" تزامناً مع المشاركة في السلطة. لكن تبرز استثناءات في هذا المجال. أثبت سالفيني في إيطاليا أن هذه الخطوة التي تحمل مجازفة كبرى قابلة للصمود، لمرة واحدة على الأقل، من خلال التشاجر مع الشركاء والخصوم في حكومة الائتلاف. بهذه الطريقة، يستطيع أن يثير ضجة دائمة على مواقع التواصل الاجتماعي ويجول البلد ضمن حملة متواصلة بدل الجلوس في مكتب في روما.

في إسبانيا والنمسا معاً، ستسيطر الأحزاب الحاكمة الملتزمة بتطبيق سياسات مالية تقليدية على الوزارات الاقتصادية الأساسية. هذا الوضع قد يجعل المتطرفين يشعرون بالإحباط والعجز قريباً، وقد تضعف مصداقيتهم أيضاً بنظر ناخبيهم.خسرت حركة "خمس نجوم" في إيطاليا دعم الناس وعدداً من أعضائها بوتيرة متسارعة منذ شراكتها مع "الحزب الديموقراطي"، عدوها التاريخي. واستقال وزير الخارجية لويجي دي مايو من رئاسة الحزب في الأسبوع الماضي من دون أن ينتظر النتائج الكارثية لاستحقاقَين انتخابيّين محليّين في عطلة نهاية الأسبوع. لذا أصبحت فرص صمود الحزب كقوة احتجاجية سياسية موضع شك.بالإضافة إلى الضرائب وتخفيض العجز، أجبر كورز حزب "الخضر" النمساوي على تقبّل مقاربته المتطرفة في مسائل طلب اللجوء والهجرة والإسلام، في محاولةٍ لاسترجاع تأييد الناخبين في "حزب الحرية" اليميني المتطرف والمُعارِض لسياسات الهجرة، علماً أنه كان شريكه السابق في الحكم.

أكد سانشيز على ميوله الديموقراطية الاجتماعية الموالية لأوروبا عبر دعم التكنوقراط في تجربة بروكسل في وزارتَي الاقتصاد والخارجية، وجلب رئيس هيئة المسؤولية المالية المستقلة الإسبانية إلى الحكومة كوزير للضمان الاجتماعي.

حصد حزب "بوديموس" حقائب وزارية مرتبطة بالتنمية المستدامة، والحقوق الاجتماعية، والمساواة، والعمل، وحماية المستهلك والجامعات، علماً أن مؤسِّسه وزعيمه الجذاب بابلو إيغليسياس أصبح واحداً من نواب رئيس الحكومة الأربعة. لكن قد يجد المتطرفون صعوبة في جرّ السياسة في اتجاه يساري بما يكفي لإرضاء ناخبيهم الشباب في معظمهم.في إيطاليا، كما في أي مكان آخر، لن تكون التركيبات السياسية الجديدة كافية لتهدئة الغضب الشعبي من مظاهر الفشل وقلة الكفاءة والجمود والفساد التي يتّكل عليها أشباه سالفيني حول العالم. مع تراجع الدعم للأحزاب السياسية الكبرى في أنحاء القارة، يبدو أن مستقبل أوروبا سيتوقف على هذا النوع من التحالفات الغريبة. لكن من المستبعد أن تضمن هذه الخيارات حكومات مستقرة وطويلة الأمد!


MISS 3