رغم سعيهم بطرق شتى للتميّز وجذب الأضواء نحوهم، تحوّل بعض «نواب التغيير» إلى جزء من المشهد السياسي الراكد والممل في لبنان. ليس في هذا ما يفاجئ، إذ أمكن استشرافه منذ قرر بعض من هؤلاء مع غيرهم وباندفاع، خوض الانتخابات النيابية بلا شرط أو ضغط، إلّا ذلك الذي فرضه أقطاب السلطة. أرادوا مقاعد نيابية وأرادتهم السلطة معها معترفين بشرعيتها باسم «الشارع»، كجزء صوري منها لتستخدمهم كدليل على ديمقراطيتها المدّعاة ومبرر لعجزها، بدليل عجزهم.
إستعراضات وخطابات بعيدة عن صلب هموم الناس وتنصل من أي خطاب جذري يمسّ ببنية النظام. نظام يبدو بعضهم من الأحرص عليه لما قدّمه لهم من مناصب وامتيازات وتنفيعات قبل وبعد الانتخابات، تحديداً أولئك الذين فرضوا على «لوائح التغييريين» ودفعت الأموال لإيصالهم إلى النيابة، فسلبوا تمثيل من انتفضوا في 17 تشرين الأول 2019.
تصريحات خبيثة من بعض هؤلاء النواب، تماثلاً بالسلطة، بينما لا يملك غيرهم سوى إصدار البيانات ودعوة الناس للنزول إلى الشارع أو تقديم الإخبارات. وهل يمكن للعبة الإخبارات هذه أن تكون أكثر من إجراء شكلي فيما الخصم هو الحكم! تذكّر هذه الإخبارات بعراضات بدأها محامون قبل الانتفاضة بسنوات، واستخدمت أحياناً كأسلوب للدعاية والترويج لأسمائهم قبل أن تنام في الأدراج.
اليوم تسير الحياة في لبنان وما بعد الانتخابات أسوأ مما قبلها، فالليرة إلى مزيد من الإنهيار، ومعها تتعمق الأزمات، بينما يكبر اليأس والملل. أمّا خطوات «نواب التغيير» وتصريحاتهم فباتت تواجَه بانتقاد يصدر عن شريحة ممن انتخبوهم لتسجل موقفاً ضد الأحزاب الحاكمة.
لا يفتح بعض قوى الاعتراض دفتر حساباته ليقيم مراجعة حقيقية لأدائه السياسي أو لمشاركته في الانتخابات وما نتج عنها. الكل تحت سلطة مطرقة رئيس مجلس النواب نبيه بري والتي لا تبالي بالدستور ولا بالعدالة ولا بمصلحة الشعب. تحركها المصالح والتسويات. أمام هذا الواقع لا يرى بعض هؤلاء النواب من فعل ثوري سوى المبيت في مجلس النواب للمطالبة بما ليس هو أولوية للناس، بل أولوية لأقطاب السلطة: انتخاب رئيس للجمهورية. ومرة جديدة يضغطون باتجاه حلّ أزمة من أزمات النظام لا أزمات الشعب. تحرك لم يلق تجاوباً شعبياً، وهو ما يبدو أنه لم يكن مطلوباً أصلاً، إذ ذهبت الخطوة بعيداً عما يمكن أن يشكل قاعدة شعبية.
يوهم أعضاء السلطة التشريعية الجدد ناخبيهم أنّ مجرد تموضعهم بمواجهة القوى الحاكمة يعفيهم من المسؤولية، وهو تموضع شكلي لدى بعضهم. لكن من موقع طرح أنفسهم كممثلين عن مصالح الناس وناخبيهم وادعاء مواجهة السلطة ونية التغيير، يتحمّل هؤلاء أيضاً مسؤولية خياراتهم ونتائجها وانعكاساتها على المصلحة العامة وفرص التغيير، وكذلك على تأثيرها في نفوس المعارضين، وإن اختلفت طبيعة هذه المسؤولية. من هنا تصبح مراجعة الأداء وتقييمه أكثر من ضرورة، ولا تكون المكابرة إلا بمثابة تماهٍ مع السلطة وتجاهل للمصلحة العامة لقاء المكاسب الشخصية.
من مسؤولية «نواب التغيير» أيضاً أن يتحملوا مسؤولية خطاباتهم، فمن يكرر خطابات أصحاب المصارف، أو يدافع عنهم، عليه أن لا يتفاجأ بتصنيفه مؤيداً لهم ضد مصالح الناس، وأن لا يشعر بالاستهداف أو الخذلان إن صارت تصرفاته محط سخرية وفقد ثقة من انتفضوا بأجسادهم ضد النظام وبمواجهة أجهزته الأمنية.
لا بداية للتغيير ولا مواجهة حقيقية مع النظام من دون وضوح تام وتموضع ضد أركانه. لا بداية للتغيير من دون خطاب سياسي واضح وعالي السقف لا يراعي دولته وسماحته ويتصرّف بميوعة أمام أصحاب رؤوس الأموال الذين يستثمرونها في السياسة. أمّا الخبث والتحايل بحجة الواقعية وغيرها من ادعاءات فليست سوى غطاء يحاول بعض «الوصوليين» التستر خلفه. فبحجة الواقعية ساعدت بعض المجموعات ونوابها النظام على ترميم نفسه. صارت البراغماتية حجة للوصول إلى المناصب بعدما كانت تبرر بالوصول إلى هدف يصب في المصلحة العامة.
ولعلّ الانتخابات النيابية الأخيرة قد أظهرت في ما أظهرته، إلى جانب سهولة الانقضاض على حركة الشارع بالمال، أنّ النظام رغم أزماته لا يزال أقوى من المجموعات المتعثرة والمبعثرة ولديه قدرة على استيعاب المعارضين لملء فجواته بهم ليصبحوا جزءاً منه، جزءاً محاصراً يتكئ عليه ويسند به الهيكل الذي اهتز، بينما يرتضي هؤلاء بأدوارهم الجديدة ضمن النظام نفسه. أدوار تعيق حركة التغيير.