عيسى مخلوف

وقفة من باريس

نحن والذكاء الاصطناعيّ: مَعالم حياة جديدة!

28 كانون الثاني 2023

02 : 00

منذ مطلع شهر كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، أصبح البرنامج الإلكتروني ChatGPT شاغل الدنيا والناس (كانت انطلاقته الأولى نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر). كيف لا وهو القادر، بطاقاته الموسوعيّة الهائلة، التحاوُر معنا كتابةً، والإجابة عن أسئلة حول موضوعات لا تُحصى، وكتابة النصوص الأدبيّة والمقالات الصحفيّة وحتّى الفروض المدرسيّة، وهو يخطّط ويَرسم ويُترجم أيضاً. أكثر من ذلك، يستطيع أن يصحّح برمجة الكمبيوتر، وقد يُستعاض به يوماً عن المبرمجين الآدميّين... وراء هذا المشروع شركة OpenAI الأميركيّة، ووراءه أدمغة ومهندسون رقميّون وعلماء في الفيزياء، وتحدّيات ورهانات بمليارات الدولارات.

النصوص التي سيكتبها هذا البرنامج الجديد، ستكون مع مرور الوقت، وبحسب العلماء، نصوصاً متطوّرة يصعب التمييز بينها وبين التي يكتبها البشر. كذلك الأمر في مجال الرسم والإخراج الفنّي والصور المتحركة، وهو يُتقن الآن إنجاز هذه الأخيرة بشكل جعل عدداً كبيراً من رسّامي هذه الصور يخشون فقدان عملهم وتصبح وظيفتهم، في المستقبل القريب، إعادة النظر في الصور التي ينتجها الذكاء الاصطناعي. وهذا ما يخشاه أيضاً المحترفون في حقول وميادين مختلفة: أن يقتصر عملهم على شيء واحد هو "أنسنة ما تُنتجه الآلة". في هذا السياق، ستحدث تحوّلات في قطاع الترجمة، وستتأثّر خصوصاً مهمّة مترجمي الفكر والأدب، وقسم كبير منهم بات يستعين بالتكنولوجيا الجديدة. وثمّة، كما الحال في العالم العربي اليوم، من يتّكل عليها بالكامل. وهؤلاء الذين يترجمون كالآلة لن يعود ثمّة مبرّر لوجودهم.

سيفتح تطوير برنامج ChatGPT البابَ لإيجابيّات كثيرة في مجالات عدّة، منها إيجاد علاج لأمراض مستعصية، والحدّ من التغيّرات البيئيّة والمناخيّة، والتحكّم بحركة الصواعق، وبدايةً، تسهيل إيصال العلم والمعرفة على مستوى واسع، لكنّ تطبيقاته المحتملة لا تخلو من المخاطر أيضاً، ومنها عمليّات الاحتيال والجرائم الإلكترونيّة. فهو، ككلّ تقدّم تكنولوجي، يتمتّع بوجهين: إيجابي وسلبي. إنّه يساهم في تحرّيات الكشف عن هويّات وسرقتها، وفي اكتشاف سرقتها في الوقت نفسه. يتمثّل الجانب السلبي أيضاً- إضافة إلى تزايد نسبة الوظائف التي يمكن استبدالها بالآلات- في استعمال هذه التكنولوجيا الجديدة لأغراض عسكريّة وأمنيّة، لا سيّما اليوم مع سباق التسلّح الذي يشهده العالم. إنّ الجهاز الذي يساعد على التعرّف على ملامح الوجوه في المطارات، يمكن أن يُستخدم أيضاً في عمليّات التجسّس، كما تُستخدم الهواتف الذكيّة المحمولة. في المجال التعليمي، قد تشجّع هذه التقنيات الحديثة الطلبة على الغشّ في الفروض والامتحانات والأطروحات الجامعيّة، بدلاً من الاستعانة بها كأداة تعليميّة. فرصة التطوير والتقدّم يلازمها تهديد الحسّ النقدي واستخدام العقل. من التحدّيات التي تواجه المعلّمين والمعلّمات الآن، كيفيّة تشجيع الطلبة على مواكبة التطوّرات التقنيّة والتكنولوجية من دون أن يكون ذلك على حساب التضحية بالفكر.

إيلون ماسك، أحد مؤسّسي هذا البرنامج الإلكتروني الجديد، وهو أيضاً أحد الوجوه البارزة في "سيليكون فالي"، صرّح قائلاً إنّ "تطوُّر الذكاء الاصطناعي سيكون أكثر خطورة من القنابل النوويّة"! في أيّ اتّجاه يا تُرى، غير الاتجاهات التي أتينا على ذكرها؟ من جهته، يقول أحد العلماء إنّ "الأيفون" الذي في حوزتنا اليوم يتمتّع بإمكانيّات تفوق ألوف المرّات إمكانيّة الحاسوب الذي أوصلَ الإنسان إلى القمر. لن يتوقّف الذكاء الاصطناعي عند حدّ، ومعه ترتسم مَعالم حياة جديدة.

ما يحصل الآن امتداد لما عرفناه مع شركات ضخمة كَـ"غوغل" و"فيسبوك". دور هذه الشركات استعمالنا بينما نظنّ أنّنا نحن من يستعملها. للتذكير فقط: نحن أدوات صغيرة جدّاً في جهاز رقميّ خارق، وفي أيدي مؤسّسات ضخمة توظّفنا، من دون أجر، لنمنحها المعلومات اللازمة عن حياتنا الخاصّة وعن آرائنا ومواقفنا، فتفرزها وتوضّبها لتبيعها لهذه الجهة أو تلك، في عالمَي التجارة والسياسة.

في العام 2014، لاحظ عالم الفيزياء البريطاني ستيفن هوكينغ أنّ الذكاء الاصطناعي مفتوح على احتمالَين: الخلاص أو الخطر. الخلاص في قدرته على القضاء على الأمراض والفقر، والخطر إذا ما تحوّل سلاحاً في أيدي المتحاربين ما يهدّد وجود الجنس البشري. يضيف: "أعتقد أنّ تطوير الذكاء الاصطناعي الكامل يمكن أن ينهي البشريّة، فبمجرّد أن يطوّر البشر الذكاء الاصطناعي، حتى ينطلق هذا الذكاء من تلقاء نفسه، ويعيد تعريف نفسه، أكثر فأكثر، بسرعة متزايدة. عندئذ، لا يعود بإمكان البشر، بسبب تطوّرهم البيولوجي البطيء، أن ينافسوه، وسوف يُسحقون".

لن تتحقّق هذه الرؤية إلاّ في حالة واحدة: الاستئثار بالسلطة والاستمرار في التقدّم العلمي والتكنولوجي من دون الأخذ في الاعتبار البُعدَين الأخلاقي والإنساني.