كرّس قاضي التحقيق العدلي بقضية تفجير المرفأ طارق البيطار في قراره الصادر في 23/1/2023 مبادئ قانونية هامة، سبق لنا أن اوردناها في مقالات قانونية عديدة. سنأتي على ذكرها تباعاً:
المبدأ الاول: الطبيعة الخاصة للمجلس العدلي
جاء في القرار ان المجلس العدلي هو " محكمة خاصة ". فقد أنشأه المشترع للفصل بنوع خاص من الجرائم الهامة والخطيرة المحددة بالمادة 356 أصول محاكمات جزائية. يتم انشاء المجلس العدلي بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الاعلى. ويتألف من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيساً ومن اربعة قضاة من المحكمة المذكورة أعضاءً.
إن طريقة انشاء المجلس العدلي بمرسوم (قرار وزاري)، يؤكد طبيعته الخاصة المختلفة عن طبيعة باقي المحاكم، حيث الاختلاف معها ليس اختلافاً من حيث الدرجة بل من حيث الطبيعة. فلا يجوز، بأي حال من الأحوال، تشبيهه بأي محكمة او تطبيق أي نصوص قانونية عليه، لا تأتلف مع طبيعته الخاصة. فالمجلس العدلي يخضع للنصوص الخاصة المنظمة له ( المواد من 355 الى 367 أصول محاكمات مدنية ) ولا يخضع لسواها من النصوص الاخرى المنظمة لسائر المحاكم، سواء أتى النص عنها في قانون اصول المحاكمات المدنية او الجزائية او في قانون تنظيم القضاء العدلي او في سواها من القوانين.
فالمجلس العدلي، أنشئ خصيصاً للنظر بجريمة محددة، وبالتالي لا توجد اي عوائق امامه لانفاذ ما هو مطلوب منه، خلافاً للمحاكم الاخرى التي لم تنشأ للفصل بجرائم محددة بل بكل جريمة تنشأ. من هنا، وطالما ان وظيفة المجلس العدلي محددة، فانه لا يتأثر باي دفوع او إجراءات، مهما كان نوعها، لانها لا تأتلف مع طبيعته الخاصة والغاية التي انشىء لاجلها.
المبدأ الثاني: الطبيعة الخاصة للمحقق العدلي
كما المجلس العدلي، كذلك المحقق العدلي، فهو من طبيعة خاصة. سبق وذكرنا في مقالات سابقة بانه يعيّن بالاسم، فلا مجال لا لرده ولا لتنحيته ولا لاستبداله او لتعيين رديف له. وذكرنا انه " واحد أحد "، وكالخورية التي وصفها الاديب مارون عبود في كتابه " اقزام جبابرة " بالصنوبرة التي " اذا قطعت لا تفرّخ ". هكذا هو المحقق العدلي، وظيفته لصيقة بشخصه، بل باسمه؛ فهو معيّن بالاسم، لا يمكن ملء مركزه باسم آخر، سواء أتى هذا الاسم الآخر عن طريق الرد او التنحي او الاستبدال او تعيين قاض رديف له او نقل الدعوى من امامه الخ. فالمحقق العدلي هو نفسه " خلقه الله وكسر القالب "، فلا يحاولنّ أحد " تغطية السماوات بالقبوات "، لغايات دنيئة في نفسه. ولو اراد المشترع النص عن جواز رده او تنحيته لما تأخر لحظة واحدة عن ذكر لك، كما فعل بالنسبة لاعضاء المجلس العدلي، حيث أوجب تعيين عضو إضافي. وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل في مقالات سابقة.
وحده المجلس العدلي له ملء الصلاحية بالبت بصوابية قرار المحقق العدلي؛ فكما المجلس العدلي، يتم تعيينه بمرسوم، كذلك المحقق العدلي يُعّين بقرار يصدر عن وزير العدل بعد موافقة مجلس القضاء الاعلى، ما يجعل المركز لصيقاً بشخصه. هو يُسمى محققاً عدلياً بالاسم، فلا يصح استبداله باسم آخر، لانه لم يعيّن بالصفة التي يمكن ان تتوافر في قاض آخر، يحل محله عند اللزوم، بل يعين بالاسم، فلا يصح استبداله، بطريقة مختلفة عن طريقة تعيينه. ان اي محاولة لرده او تنحيته او استبداله او تعيين محقق رديف له، هي محاولة عقيمة لشله وغلّ يديه عن متابعة التحقيق.
وللاسباب عينها المدلى بها اعلاه، فانه يستحيل نقل الدعوى من امام المحقق العدلي، لانه في الاصل لا يوجد محقق عدلي آخر ( اضافي او رديف ) لنقل الدعوى امامه. فالمحقق العدلي ـ كما ذكرنا اعلاه – معيّن بالاسم وليس بالصفة وهو " واحد أحد "، كما ذكرنا في مقالات سابقة، فكيف يمكن نقل الدعوى من محقق عدلي الى آخر، طالما انه لا وجود لمحقق عدلي آخر؟! فالمحقق العدلي – كما ذكرنا مراراً في مقالات سابقة – يعيّن بالاسم وهو واحد أحد. فلا يمكن استبداله – لاي سبب كان من الاسباب التي ذكرنا اعلاه - بمحقق عدلي آخر، لعدم وجود اصلاً محقق عدلي آخر!
المبدأ الثالث: المحقق العدلي قاضي تحقيق وقاضي ملاحقة في آن واحد
جاء في القرار ان المادة 356 أ.م.ج اعتمدت معياراً موضوعياً للإحالة الدعوى العامة امام المجلس العدلي، وليس معياراً شخصياً مرتبطاً بصفة الشخص المحال. وعليه، لا يوجد اي اعتبار مرتبط بصفة المحالين امام المجلس العدلي، سواء اكانوا سياسيين، اداريين، عسكريين، او قضاة. وان ما يعزز هذه الفكرة هو "المفعول الساحب" لاختصاص المجلس العدلي المنصوص عنه في الفقرة الاخيرة من المادة 356 أ.م.ج، اذ انه، وبعد احالة الدعوى امام المجلس العدلي، ترفع يد اي محكمة سواء أكانت عسكرية او عادية، عن جميع الدعاوى المتعلقة بالجرائم المحالة امام المجلس المذكور، بحيث يصبح المجلس العدلي هو المرجع الوحيد الصالح للبت بها.
انسجاماً مع ما اوردناه اعلاه، منحت المادة 362 أ.م.ج المحقق العدلي صلاحية الملاحقة كما صلاحية التحقيق، وصلاحيته في الملاحقة مماثلة لصلاحية النائب العام التمييزي. فهو يضع يده على الدعوى بصورة موضوعية. وفي حال تبيّن من التحقيقات المجراة منه وجود شخص ساهم في الجريمة، فيستجوبه بصفة مدعى عليه، ولا حاجة لادعاء النيابة العامة التمييزية عليه هنا، لانه هو من يحل محلها في الادعاء.
ماذا يعني ان تعطى للمحقق العدلي صلاحية الملاحقة ؟ هذا يعني بانه لا يلزمه الاستحصال على اي اذن بالملاحقة توجبه القوانين ذات الصلة، وذلك أسوة بمدعي عام التمييز، اذ منحه القانون ذات سلطة الملاحقة الممنوحة لهذا الاخير.
كما يعود للمحقق العدلي، وانطلاقاً من سلطة الملاحقة الممنوحة له، ان يدعو الوزراء والعسكريين والقضاة امامه لاستجوابهم بصفة مدعى عليهم، بما يعود له من سلطة الملاحقة، ثم احالتهم امام المجلس العدلي، في حال اتهامهم.
ان سلطة الملاحقة المعطاة للمحقق العدلي مبررة ايضاً بصدور مرسوم الاحالة عن مجلس الوزراء؛ الامر الذي يعتبر بحد ذاته، تفويضاً مسبقاً للمحقق العدلي بالملاحقة والتحقيق في آن واحد، صادراً عن المرجع الاداري الاعلى في البلاد، الا وهو مجلس الوزراء؛ فتنتفي الحاجة معه تالياً للحصول على اي اذن اداري يوجبه القانون في التحقيقات العادية. هذا اضافة الى ان النيابة العامة التمييزية قد ادعت بجريمة تفجير المرفأ – وفي ورقة الطلب المنظمة منها – " على كل من يظهره التحقيق في هذه القضية "، ما يشّكل سبباً اضافياً يزاد الى الاسباب الاخرى اعلاه، للقول بعدم الحاجة الى الاستحصال على اذونات بالملاحقة، أو الى ادعاء لاحق من النيابة العامة التمييزية، لانه حل محلها في الملاحقة ولا حاجة للادعاء اللاحق منها.
هذا هو المجلس العدلي ذات الطبيعة الخاصة. وهذا هو المحقق العدلي ذات الطبيعة الخاصة ايضاً. فلا يحاولنّ احد تطويع نصوص تشريعية بصورة مفرطة توصلاً لافراغ مؤسستي المجلس العدلي والمحقق العدلي من مضمونهما القانوني توصلاً الى تعطيل التحقيق وترك " جريمة العصر " بدون فاعل!
مهما تكن النتائج، فالقانون يعلو ولا يعلا عليه؛ وليس على المحقق العدلي سماع اي كان، فهو محكوم بقناعاته، يعمل بموجبها دون الالتفات الى أحد. ويبقى المجلس العدلي هو المرجع الوحيد الذي يصّوب الاخطاء في حال حصولها.
بقرار 23/1/2023، اعاد المحقق العدلي الى القضاء هيبته وسطوته. ويبقى السؤال كيف سيتم التفاعل معه؟
حمى الله المحقق العدلي طارق البيطار.