محمد دهشة

الرواس آخر قشّاشي صيدا

30 كانون الثاني 2023

02 : 01

من ابتكاراته

يحافظ المعلّم الثمانيني سليمان خضر الرواس، آخر قشّاشي صيدا على حرفته من الاندثار والنسيان معاً، يقبض بيديه على عيدانها الطرّية ليُشكّلها على طريقته الخاصة أشكالاً تقليدية ومبتكرة، لتصبح قطعاً نادرة تخطف الأبصار، إذ يحفظ أسرارها عن ظهر قلب، بعدما بدأ كهاوٍ بشراء الكراسي القديمة وتجديدها، مع إضافة لمساتٍ فنّية إليها، فسرعان ما أصبح محترفاً وأحد الخبراء القلائل فيها.

يفتخر الرواس بأنّه آخر الرعيل الأول، يبلغ من العمر 82 عاماً وقد أمضى 50 عاماً ونيّفاً في المهنة التي احترفها قليلون لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة ومن أبرزهم المعلم مصطفى الأرناؤوط الذي تقاسم معه الشهرة والرزق، قبل أن يرحل تاركاً فراغاً كبيراً.

يقول الرواس لـ»نداء الوطن»: «في بداية حياتي عملت بصناعة المحراث الزراعي (التراكتور) وطوّرته كثيراً، ولكنني عشقت حرفة تصنيع الخيزران، لأنها تعتمد على الابتكار والخيال، فاحترفتها وفتحت طريق الإبتكار فيها وتطويرها ودمجت 3 موديلات قديمة مع بعضها البعض، لتصبح أول «ستايل» جديد، فذاع صيتي وكبرت شهرتي، فالفرادة تضيف قيمة عالية على العمل ليست مادية وإنّما تراثية واجتماعية، ففي حرفتنا التميّز مطلوب».

والرواس، هو ربّ أسرة مؤلفة من زوجة و5 أولاد بأنامله السحرية تغدو قصبة الخيزران أشكالاً حلزونية، يقول «إنّها مادة طيّعة لصنع أشكال فريدة ما يساعدني على ابتكار أشكال وأحجام متنوّعة، في بعض الأحيان استخدم النار لتشكيل قضبان الخيزران وتحويلها أشكالاً مختلفة واضعاً نصب عيني حبّ التجدد في كل ما أقوم به وأصبحت أُضيف لمسات فنّية الى كل تقليد من الكراسي والمقاعد والطاولات والصالونات، وابتكرت كرسي «هافان» و»الهزّازة» الفريدة بتوازنها، والمرآة ذات العين والرموش والمهواة التي تحملها المرأة في يدها وغيرها. إن مادة الخام، أي الخيزران والقشّ، مكلفة لجودتها ومتانتها العالية التي لا تعرف حدوداً لا لزمان ولا لمكان، والخيزران الماليزي هو من أهم الأنواع التي نضعها في مهنتنا، فالكيلو الواحد يبلغ نحو 22 دولاراً أميركياً ولم يبق سوى تاجر واحد لها في بيروت».

ويؤكد الرواس أنّ الصناعة المحلية أفضل بكثير من المستورد من الصين أو ماليزيا، «صحيح أنّ سعرها أغلى ولكنها تبقى عقوداً طويلة وما نسعى إليه دائماً هو مواكبة متطلبات التطور العصرية وتصميم ما هو خارج المألوف والعادي، ونكافح بصبر ضدّ اجتياح الأثاث المستورد المصنوع بثمن بخس، للحفاظ على الحرفة على قيد الحياة».

في محترفه المكوّن من محلّين ومستودع قبالة مستشفى «دلاعة»، يراكم الرواس أشغاله بكلّ تصاميمها ومقتنياتها، تتحوّل شاهداً على عمله منذ 50 عاماً وكل ما شغلت يداه، يحضر يومياً إليه ليس لكسب العيش فقط وإنّما لمواصلة حرفته وإبقائها على قيد الحياة. يقرّ أنّ الإقبال على شراء المقتنيات تراجع كثيراً وخاصة بعد بدء الأزمة الاقتصادية، «ولكنني أعتمد على القطع النادرة والجميلة لتعويض البيع، وعلى إعادة تأهيل القديم، كثر يقصدونني فأقوم بالصيانة وأهمّها تبديل المكسور منها، وغسلها بالمياه وطلائها بمادة خاصة مع إضافة لمسات فنّية جديدة لإعادة الحياة والنضارة اليها.

أحبّ الحرف اليدوية ولست بحاجة إلى تحقيق الربح لأنني أملك العديد من الأعمال التجارية في المدينة»، هو متخصص بالأسمدة الكيماوية والمنتجات الزراعية. ويستذكر الرواس أنّ الدولة اتّخذت خطوة لدعم الحرفة، من خلال التوصية باستحداث كراسٍ للمقاهي مصنوعة من الخيزران ولما يحويه من فوائد صحّية للإنسان من جهة والمحافظة على تراث المقهى اللبناني الأصيل من جهة أخرى، «لكن اليوم الدولة غائبة والناس يكادون يحتضرون من الفقر والجوع». وهو يتنهّد حسرة على الأيام الخوالي التي كانت فيها المهنة تطعم العسل بشهده»، يختم قائلاً: «لم أندم على احتراف المهنة وقد علّمتها الى ولدي محمود بكلّ أسرارها وأسلوبها وطريقتها كي يحافظ عليها كتراث وطني يجب أن يبقى على قيد الحياة»