آدم توز

التاريخ الخفي لأهم الملاذات الضريبية الخاصة بالعملات الرقمية في العالم

30 كانون الثاني 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

سام بانكمان فرايد مكبل اليدين إ أثناء تسليمه إلى الولايات المتحدة في مطار ليندن بيندلينج الدولي | جزر الباهاما، 21 كانون الأوّل 2022

في 3 كانون الثاني، حين كان سام بانكمان فرايد يُصِرّ على براءته في نيويورك من تُهَم مرتبطة بانهيار واحدة من أكبر منصات تبادل العملات الرقمية في العالم، أصبحت أزمة شركة FTX مجدداً جزءاً من القصص الأميركية المألوفة. سرعان ما أغفل الجميع عن ارتباط جزر البهاما بإفلاس الشركة. لكنّ الرابط الوثيق بين منصة اعتُبِرت رائدة في مجال التكنولوجيا المالية وجزر البهاما ليس عرضياً بأي شكل، بل إنه يشدد على تحوّل منطقة الكاريبي مراراً إلى مختبر شائك للرأسمالية العالمية.


تكثر مظاهر اللامساواة في هذه المنطقة، لكنها تتمتع بمزايا كافية لجذب عشرات آلاف المهاجرين من هايتي. هم يسعون إلى العيش في أكواخ عشوائية في محيط مختلف المستوطنات والبلدات في جزر البهاما.

كذلك، تقدّم الجزر المنخفضة والمعزولة ومهابط الطائرات الخاصة في هذه المنطقة فرصاً وافرة للحفاظ على خصوصية كل من يريد التهرب من التنظيمات الحكومية، حتى لو كان هذا العصر مبنياً على المراقبة الرقمية. خلال السبعينات والثمانينات، تدفقت أموال المخدرات من الكارتيلات الكولومبية إلى المنطقة كلها. لكن لا تصل المبالغ المالية الضخمة إلى أماكن مثل جزر البهاما عشوائياً بل عن طريق نظام مالي معزول ومدروس ومتماسك. يقيم هذا النموذج الاقتصادي شكلاً من التوازن بين الفقر المدقع والثراء الفاحش في منطقة كانت سابقاً ساحة معركة للاضطرابات الجيوسياسية وتواجه الآن تحدياً تاريخياً على صلة بالتغير المناخي.



تُعتبر الملاذات الضريبية والمراكز المالية الخارجية ردّة فعل على المتطلبات المالية والتنظيمية في القرن العشرين. ظهر هذا النوع من الأماكن للمرة الأولى في لوكســـــمبورغ وليختنشتاين وامتد في أنحاء الإمبراطورية البريطانية خلال الفترة الفاصلة بـــين الحربَين العالميتَين، حين كان الأثرياء بحاجة إلى حماية أموالهم مـن الضرائب الثقيلة التي فرضتها دول أصبحت ديمقراطية حديثاً، بما يتماشى مع المتطلبات المالية للحرب الشاملة. فتحت أولى مكاتب إدارة الثروات أبوابها في "ناسو"، عاصمة جزر البهاما، خلال الثلاثينات. ثم تلقّت دعماً إضافياً خلال الخمسينات، حين أطلقت قيود الصرف والرساميل في نظام "بريتون وودز" عملية بحث مكثفة عن أسهل الطرق لنقل الدولارات. وفي ظل عدم تدخّل بنك إنكلترا، جرى إقراض وإعادة "الدولارات الأوروبية" في الخارج، بعيداً عن تنظيمات وزارة الخزانة الأميركية.



في التاريخ الحديث، جاء هجوم 11 أيلول ليعيق قطاع السياحة الأميركي طوال موسمَين تقريباً. وأدت الحرب العالمية على الإرهاب إلى إطلاق حملة قمع غير مسبوقة لعمليات تبييض الأموال، فسارعت جزر البهاما إلى الالتزام بالتنظيمات المعتمدة. تجدّد النمو قبل أن ينهار مجدداً بسبب الأزمة المالية في العام 2008 والتداعيات المرافقة لها. في نهاية المطاف، اضطرت جمهورية الدومينيكان، وأنتيغوا، وبربودا، وجامايكا، وسانت كيتس ونيفيس، للمطالبة ببرامج من تحضير صندوق النقد الدولي. كانت جزر البهاما من جهتها أقوى من أن تتخذ هذه الخطوة. لكن بعد طفرة النمو في التسعينات وبداية القرن الواحد والعشرين، توقفت ديناميات النمو، وبدأت الإيرادات المصرفية الخارجية تتراجع. في الوقت نفسه، زاد الإنفاق الحكومي على الإعانات والرواتب بعد أزمة العام 2008. نتيجةً لذلك، فاق مستوى الدين العام نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي عتبة 73% في العام 2014، بما يفوق معدل منطقة الكاريبي.



بحثاً عن بدائل مناسبة بعد الأزمة الأوكرانية الأولى في العام 2014، أصبحت جزر البهاما لفترة قصيرة معقلاً تنظيمياً للأموال الروسية، فسمحت لأصحابها بالتهرب من العقوبات الغربية ومن جهود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإعادة ثروات الأوليغارشيين. لكن غادرت تلك الأموال بالسرعة التي وصلت فيها. في نهاية ذلك العقد، انكمشت الودائع الأجنبية في بنوك البهاما بمعدل 6% سنوياً.



كانت أزمة شركة FTX مجرّد عرض جانبي بالنسبة إلى جزر البهاما، ما يعني أنها تشبه المشاريع السابقة والاستثمارات الخارجية الفاشلة التي تركّزت في الجزر قبل أن تنهار بكل بساطة. في هذا السياق، أعلنت وكالات التنصيف أن فشل FTX لا يؤثر مادياً على تصنيف السندات الوطنية. كان استثمار هذا الكم من الرأسمال السياسي في المشروع انتصاراً للأمل على المنطق. كل ما يهم المعنيين في البهاما هو استمرار انتعاش السياحة وقطاع العقارات المحلي، ويتوقف هذا العامل على الطقس المعتدل.



مع شروق الشمس وهبوب النسيم، من الطبيعي أن تُعتبر حتى أقوى الكوارث الاقتصادية، كتلك التي نشأت بين العامين 2019 و2020، مجرّد سوء طالع. في النهاية، ظهرت جائحة كورونا في الصين البعيدة، وسرعان ما تبيّن أن الهستيريا المرافقة لها كانت مفرطة. كذلك، كان إعصار "دوريان" مريعاً، لكن تبقى الأعاصير جزءاً من الحياة الطبيعية في الكاريبي. بدت مظاهر الدمار مخيفة، لكن تدفقت مليارات الدولارات إلى المنطقة من شركات التأمين، فأقامت جزر البهاما توازناً لافتاً بين دفع المستحقات وإطلاق سلسلة من الصفقات العقارية ومشاريع البناء في البهاما الكبرى وأباكوس. لا تزال الرأسمالية تعطي مفعولها إذاً في وجه الكوارث الطبيعية، حتى أن عجلتها تدور بوتيرة أسرع من أي وقت مضى.



لكن يتوقف أي وضع إيجابي عند هذا الحد. أدرك السكان المحليون أن إعصار "دوريان" حدث جديد وخطير. هو يدخل في خانة العواصف من الفئة الخامسة، وقد سبّب انزلاقات أرضية بسرعة رياح بلغت 185 ميلاً في الساعة، فأنتج عشرات الأعاصير وطوّر قوى أكثر شراسة. كان هذا الإعصار من أسوأ العواصف المسجلة في تاريخ نصف الأرض الغربي. لم يكن الإعصار مخيفاً بسبب قوته فحسب، بل إنه استمر لمدة غير مسبوقة وحافظ على ثباته ونشر الفوضى والدمار طوال 48 ساعة تقريباً. بقيت حصيلة القتلى محدودة لأن الإعصار استهدف الجزر ذات الكثافة السكانية المنخفضة وسبقته تحذيرات كافية نسبياً.



من المتوقع أن يصبح هذا النوع من العواصف أكثر شيوعاً. بدأنا ندخل عصر الأنثروبوسين، ويطرح هذا الوضع تهديداً مميتاً على الكاريبي. لو أن إعصار "دوريان" ضرب "بروفيدانس الجديدة" التي تشمل حوالى ثلثَي السكان، بدل أباكوس والبهاما الكبرى، كان وجود جزر البهاما بشكلها الراهن ليصبح مُهدداً. بعيداً عن العواصف الكارثية، يطرح ارتفاع مستوى البحر أخطر تهديد على المنطقة. قد تصبح هذه الجزر من أكثر الأماكن هشاشة في العالم بسبب تركيبة الجزر الجميلة التي تتألف من نتوءات بركانية وشعاب مرجانية.



خلال المحادثات المناخية السنوية في الأمم المتحدة، كان حضور الكاريبي قوياً. في العام 1994، استضافت بربادوس أول اجتماع للمؤتمر العالمي حول التنمية المستدامة في الدول الجزرية الصغيرة النامية، فأطلقت بذلك فئة جديدة من الدول الهشة. وبعد مرور ثلاثين عاماً تقريباً، لا تزال البهاما وبربادوس تمثّلان وجهَين مختلفَين من ردود الكاريبي العامة على أزمة المناخ. بدأت بربادوس، التي تتحمّل أعباء متزايدة من الديون وخاضت إعادة هيكلة لديونها بين العامين 2018 و2019، تسوّق "مبادرة بريدجتاون" الخاصة بهندسة مالية جديدة وشاملة لتأمين مئات مليارات الدولارات ومعالجة الأزمة وضخ الاستثمارات لتسهيل تأقلم الدول النامية والهشة مع المناخ.



في المقابل، كان رد جزر البهاما أقل قوة وأكثر انتهازية، فهي تعتبر التغير المناخي فرصة لتطبيق هندساتها المالية. من المتوقع في هذه الحالة أن تسوّق "اعتمادات الكربون الأزرق" بناءً على القدرة الاستيعابية للأنظمة البيئية الساحلية الخاصة بأشجار المنغروف والأعشاب البحرية في محيط البهاما، ما يعني أن تتمكن الجهات المُلوِّثة حول العالم من شراء تلك الاعتمادات والتعويض عن انبعاثاتها ومنح الجزر سيلاً من العائدات الإضافية. في هذا السياق، قال رئيس وزراء جزر البهاما فيليب ديفيس، في شهر نيسان الماضي: "أنا أعتبر انبعاثات غازات الدفيئة مشابهة للنفايات الآن، وأعتبر مُصَرِّف الكربون أشبه بشركة جمع القمامة التي تقدم خدمات مجانية للعالم". يتفاخر مؤيدو تمويل الخطط الخضراء باحتمال أن تتراوح قيمة سوق كبح الكربون بين 245 و546 مليار دولار بحلول العام 2050.



لكنّ تاريخ جزر البهاما يُعلّمنا في المقام الأول أن هذا النوع من المخططات يبقى وهمياً على الأرجح. لا يمكن حل مشكلة المناخ عبر تعديل الحقوق النظرية المرتبطة بالتلوث، مثلما يستحيل إعالة أي دولة عن طريق التمويل الخارجي بكل بساطة. لا يعني ذلك أن التمويل لا أهمية له، بل إن منطقة الكاريبي تحتاج إلى تأمينات على شكل ترتيبات خاصة وعامة كتلك التي اقترحتها "مبادرة بريدجتاون"، حيث يتوقف دفع السندات على الكوارث الطبيعية. قد تكون المبادرة التي أطلقتها قمة الأمم المتحدة للمناخ، في السنة الماضية، لإنشاء صندوق عالمي للخسائر والأضرار (تستطيع الدول التي تقع ضحية التغير المناخي الاتكال عليه) خطوة في الاتجاه الصحيح.



لكن يُفترض أن تتحدد كامل تفاصيل هذه الخطة في مرحلة التحضير لتكييف الناس والأماكن مع المستجدات. في الحد الأدنى، تركت مظاهر الحرمان الاقتصادي والعرقي إرثاً مفاده أن 90% من سكان جزر البهاما لم يتعلموا السباحة. هذا الوضع أعطى عواقب مرعبة حين تخبّط آلاف السكان في "مارش هاربر" (المركز التجاري لأباكوس) للبقاء على قيد الحياة في مياه الفيضانات عند وقوع إعصار "دوريان".



بدأت المياه المدهشة ومظاهر الطقس الدافئ والنسيم العليل تفتقر إلى الاستقرار وتزداد خطورة، ولا يمكن حماية الدول التي انبثقت من مناطق الإمبراطورية السحيقة في النصف الثاني من القرن العشرين إلا عبر برنامج يتماشى مع تطورات القرن الواحد والعشرين ويهدف إلى الاستعداد للكوارث المحتملة. تتطلب هذه الخطة مستويات جديدة من الاستثمارات العامة. لتحقيق هذه الغاية، لن يكفي الخليط الهش بين التمويل الخارجي والسياحة المتطورة التي شهدتها جرز البهاما والبلدان الأكثر ازدهاراً في جوارها على مر أول نصف قرن من تاريخها كدول مستقلة.

MISS 3