مارك ليونارد

نسخة من نسخات العولمة تلفظ أنفاسها الأخيرة

30 كانون الثاني 2023

المصدر: بروجكت سنديكيت، النبأ المعلوماتية

02 : 00

عودة النزاعات القومية بقوة

هل سنشهد إعادة إحياء العولمة؟ كان هذا هو السؤال الأهم الذي طُرح في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حيث تساءل مؤسس المنتدى كلاوس شواب عما إذا كان من الممكن التعاون في عصر الانقسام.

على مدى العقد الماضي، كان الزوال المستمر لعبارة «رجل دافوس»- الصورة الرمزية للأعمال التجارية العالمية- هو القضية المهمة، بسبب الأزمة المالية لعام 2008، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب، والتراجع الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، واندلاع جائحة فيروس كوفيد 19، وحرب روسيا في أوكرانيا. تم اعتبار جميع هذه الأزمات دلائل على أن العولمة قد ذهبت أبعد مما ينبغي وأنها ستتجه نحو المسار المعاكس.




تفاؤل.. ونحو شكل جديد من اشكال العولمة

ومع ذلك، كان التفاؤل يسود الأجواء في اجتماع هذا العام. وعلى الرغم من القلق الشديد بشأن الحرب والصراعات الاقتصادية، يبدو أن العالم أصبح أفضل حالاً مما توقعته النخب العالمية عندما اجتمعت آخر مرة في مايو/أيار الماضي. فقد نجح الأوكرانيون في مقاومة الغزاة الروس بشجاعة، وأصبح الغرب موحداً، وقد تمكنت أوروبا من الحفاظ على الطاقة طوال فصل الشتاء، ويعتقد البعض أننا قد ننجح في تجنب الركود.

فضلاً عن ذلك، خلف هذه التطورات المهمة قصيرة المدى سوف نجد تحولاً أكثر عمقاً نحو شكل جديد من أشكال العولمة، وإن كان شكلاً مختلفاً تماماً عما سبقه. وفي حين يبدو أن العولمة الاقتصادية قد بلغت ذروتها، فقد أصبح تبادل الخدمات أكثر سرعة من أي وقت مضى، وذلك بسبب ثورة العمل عن بعد التي اندلعت أثناء الجائحة.

ثورة على صعيدي الطاقة المتجددة والذكاء الصناعي

كما نشهد ثورة متصاعدة في مجال الطاقة، مدفوعة جزئياً بالحرب في أوكرانيا. وتتوقع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والمستشار الألماني أولاف شولتز أن يحظى الاعتماد الواسع النطاق لمصادر الطاقة المتجددة والطاقة الهيدروجينية بنفس أهمية الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. وفي الوقت نفسه، يُتيح التقدم في الذكاء الاصطناعي إمكانيات جديدة هائلة، في حين يخلق أيضاً توترات حول الرقائق الإلكترونية الدقيقة والمخاوف المُتجددة بشأن البطالة والروبوتات.

وسوف تعمل التطورات في جميع المجالات الثلاثة- العمل عن بعد ومصادر الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي- على ربط البلدان ببعضها البعض في شبكات جديدة من الاعتماد المتبادل. وكما يُظهر تقرير حديث صادر عن معهد ماكينزي العالمي، «ليست هناك منطقة قريبة من تحقيق الاكتفاء الذاتي».



تحول من أرباح الشركات الى الأمن القومي

ومع ذلك، قد تكون نسخة العولمة الجديدة التي حظيت بأهمية في منتدى دافوس مختلفة اختلافاً جذرياً عن التكرارات السابقة. أولاً، بينما كان النموذج القديم يدور حول أرباح الشركات، فإن النموذج الجديد يتعلق بالأمن القومي بكل أبعاده. فقد صورت الدول الغربية الحرب في أوكرانيا باعتبارها دفاعاً عن النظام الليبرالي القائم على القواعد ضد العدوان الأحادي الجانب من قبل روسيا (وبالتالي الصين). لذلك تنشغل هذه الدول بالانفصال عن روسيا وإعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية مع الصين. وفي منتدى دافوس، كانت وزيرة المالية الكندية كريستيا فريلاند واحدة من بين العديد من صناع السياسات الذين شددوا على الحاجة إلى «دعم الأصدقاء».

وبالنسبة للعديد من الدول خارج الغرب، تتحمل كل من أوروبا وأميركا المسؤولية عن تعطيل النظام العالمي مثل روسيا والصين، ومع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة تُهدد أمنهما وازدهارهما. فهما يعتقدان أن الغرب اتخذ قراراً بتحويل الحرب إلى صراع اقتصادي (من خلال حزمة العقوبات الأكثر طموحاً وتشدداً في التاريخ) مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على الملايين من البشر.

الدولار يفرض تفضيلات أيديولوجية وإستراتيجية

وبالعودة إلى سنوات منتدى دافوس الذهبية، كان النظام المالي القائم على الدولار يُعد منفعة عامة عالمية قادرة على نشر الرخاء في كل ركن من أركان العالم. لكن اليوم يُنظر إليه بشكل متزايد باعتباره أداة قوية يمكن لأميركا من خلالها فرض تفضيلاتها الأيديولوجية والإستراتيجية. تتّبع العقوبات المفروضة على روسيا نفس النمط من السياسات الغربية المُستخدمة لملاحقة «الحرب ضد الإرهاب» ومكافحة انتشار الأسلحة النووية في إيران وكوريا الشمالية.

وكما أدرك بنك بي إن بي باريبا «BNP Paribas» الفرنسي في عام 2014، عندما تم تغريمه أكثر من 8 مليارات دولار لانتهاكه العقوبات الأميركية، فقد أصبحت هذه السياسات بمثابة مصيدة عالمية تعتمد فعاليتها على التسييس الصريح للأنظمة العالمية التي كانت تعتبر محايدة في السابق (من حيث المبدأ إن لم يكن في الواقع).

الآن وقد تم السماح باتخاذ تدابير مماثلة، بدأ آخرون أيضاً بتسييس الإطار العالمي للقواعد والمعايير. على سبيل المثال، ينظر الاتحاد الأوروبي في فرض تعريفة كربونية جديدة على الواردات، وقد اتخذ بالفعل تدابير لمنع تخزين البيانات المتعلقة بمواطنيه خارج حدوده.

ومن جانبها، ضاعفت الولايات المتحدة جهودها من خلال فرض حظر شامل على بيع التقنيات المهمة استراتيجياً للصين. والنتيجة ليست مجرد تقسيم المعرفة. واليوم، تبذل جميع البلدان جهوداً أكبر للحماية ضد مخاطر الاعتماد المتبادل.

عالم متعدد الأقطاب... والأيديولوجيات

ثمة اتجاه آخر من شأنه أن يميز العصر القادم للعولمة، وقد يكون أكثر أهمية. في حين كانت بريطانيا وأميركا على التوالي في مركز الموجتين الأوليين للعولمة، فإن هذه الموجة الجديدة ستكون متعددة الأقطاب، وبالتالي متعددة الأيديولوجيات. لم تقم الصين بسد الفجوة الاقتصادية مع أميركا فحسب، بل تجاوزتها باعتبارها أكبر شريك تجاري لمعظم دول العالم. وهذا يعني ضمناً حدوث تحول كبير في ميزان القوى الاقتصادية.

تُشير هذه الديناميكية الجديدة إلى أن العالم سوف ينقسم ليس فقط بسبب القومية ولكن بفعل أفكار مختلفة جذرياً حول النظام. حصل الحاضرون في دافوس على تصوير واضح لهذه الحقيقة عندما حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لإلقاء خطاب يدعو فيه العالم إلى حشد الجهود ضد الحرب الروسية غير المبررة. وبينما هتف نصف الحضور بحماس، بدا النصف الآخر غير متأثر. وحتى لو تعاطف الكثيرون مع الأوكرانيين، فإنهم يخشون أن يتم استخدام الصراع لإحداث حرب باردة ثانية والتي ستؤدي إلى تقسيم العالم إلى ديمقراطيات وأنظمة استبدادية. هذا هو آخر شيء يريده معظم القادة السياسيون. وفي مناقشات خاصة، يشكو قادة أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية من أن بلدانهم عانت بالفعل من فقدان السيادة والسيطرة خلال الحرب الباردة الأولى. بالنسبة لهم، هناك القليل مما يمكن كسبه من الاضطرار إلى الانحياز مرة أخرى. حتى حلفاء أميركا يعارضون الاضطرار إلى الاختيار. لقد تحدثتُ إلى رجل أعمال ياباني يشعر بقلق بالغ إزاء السياسة الخارجية الحالية للصين، لكنه أيضاً عارض بشدة سياسة الانفصال. وفي خطابه الخاص أمام المؤتمر، أعلن شولز أن عالم عام 2045 لن يكون ثنائي القطب بل متعدد الأقطاب.

في نهاية المطاف، قد يكون شولز محقاً في الأمل في التعاون في عصر التفكك الذي نشهده. ومع ذلك، يتعين علينا أن نضع في اعتبارنا كيف قد تختلف العولمة القادمة اختلافاً جوهرياً عن العولمة السابقة.

(*) مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف كتاب «عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال بالصراع»