إعداد مجموعة من الأكاديميّين

رؤية بديلة لمناهج التعليم العام في لبنان

1 شباط 2023

02 : 00

وَضَعَ المركزُ التربويُّ للبحوث والإنماء بدعمٍ من البنك الدوليّ وثيقةً بعنوان "الإطار الوطنيّ اللُّبنانيّ لمنهاج التعليم العامّ ما قبل الجامعيّ". المُسوَّدة الأولى من الوثيقة وُضِعَت في شهر آذار 2022، وجرى تعديلُها لاحقاً أكثرَ من مرَّةٍ. ثمّ وُضِعَت بصيغةٍ نهائيّةٍ وسُلِّمَت إلى رئيس الجمهوريّة بتاريخ 29 تشرين الأوّل 2022. تُعتبَر هذه الوثيقة ذاتَ طابعٍ مكتبيٍّ أو شكليٍّ، لا تُجيب عن أيِّ قضيَّة من قضايا التعليم فيها، القديم منها (كتعليم التاريخ، والتفاوت الاجتماعيّ، إلخ) والمتراكَم منها (تدهور النوعيّة) والمستجدّ منها (الخسائر التربويّة التي مُنِيَ بها القطاعُ التربويُّ في خلال السنوات الأخيرة، على مستوى تعلُّم الطلّابِ وعلى مستوى عملِ المعلِّمين، إلخ).

إنّ طريقةَ وَضْعِ الإطار وطريقةَ بناءِ المناهج، على قاعدةِ الحصص السياسيّة في تكوين اللِّجان، من باب توزيع المغانِم وتوزيع القِيَم، أو مِنْ بابِ الضبطِ السياسيِّ المُسبَق، تُؤدّي حكماً إلى استبعاد العمل الفكريّ الأكاديميّ لمصلحةِ التسويات. ومنهج التسويات، الذي طُبِّق سابقاً، ظهرت نتائجُهُ في تفاصيل المنهج وكتبِهِ (الصادرة عن المركز) بصورة غِيابٍ (منهج التاريخ) أو بصورةِ تلفيقٍ (كتاب التربية المدنيّة المُوَحَّد) أو بصورةِ لُغةٍ خشبيَّةٍ أو تقليدِيَّةٍ أو تلقينِيَّةٍ أو حَشو، إلخ. وهي أمورٌ تُنَفِّر المتعلِّمين ممّا يتعلَّمونه في المدرسة وتضعهم في هشاشةٍ معرفِيَّةٍ تُسهِّل بقاءَهُم في خطاب الجماعات الأوليَّة، وما فيها من تعصُّب وتنميطٍ وهويّاتٍ سياسيّة، إلخ. ويُعتبَر "الإطار الوطنيّ" اليوم مثالاً إضافيّاً على منهج التسويات هذا في اتِّخاذ القرارات في القطاع التربويّ كما في سائر القطاعات، كالمال والكهرباء والماء والاتِّصالات وغيرها.

انطلاقاً من رفضِ بناء منهجٍ جديدٍ ضمن شروطِ سياقٍ قديم ومُسَيَّس، وتكرار القصَّة نفسِها، عملت مجموعةٌ من الأكاديميّين على بلورة هذه الرؤية كبديلٍ عن الإطار المذكور. وانطلقتْ في عملها من تقدير أعضائها القضايا التربويّة الكبرى التي تتَّصل بأزمة لبنان المتفاقمة، ومن تجاربهم التربويّة، وربطاً بالمعارف المُتاحة في العلوم التربويّة وسائر الحقول ذات العلاقة. وتقوم هذه الرؤية على أربعة أركان. أوَّلها: وجود مبادئ كبرى حاكمة لبناء المناهج، وهي مبادئ عالميّة ذاتُ حقلٍ تطبيقيٍّ خصبٍ في المجتمع اللُّبنانيّ. ثانيها: التكامل بين تطوير المناهج وتطوير سائر مكوِّنات النظام التربويّ، وإلّا سوف يجري "التهام" المناهج من قِبَل النظامِ التربويّ القائِم، وقد دلَّ وضعُ وثيقةِ الإطار على هذا المصير تحديداً. ثالثها: اعتبار التعليم الأساسيّ وحدةً متكاملةً (على امتداد السُّلَّم الدراسيّ، وللقطاعَيْن الرسميّ والخاصّ معاً) يجب تصوُّرُ ملامحِه ونواتِجِه (ملامح الخرّيجين) قبل الغوص في تفاصيل الموادّ والصفوف والمراحل. رابعُها: أَنَّ المبادئَ والمقارباتِ والملامحَ التي تقترحها المجموعةُ، إنّما تقترحها من أجل تطبيقها على مستوَييْن في الوقت نفسه: مستوى سيرورة بناء المناهج، ومستوى مضامين المناهج وأساليب تنفيذه وتطبيقه من قِبَل اللِّجانِ والمؤلِّفين والمديرين والمعلِّمين والطلبة، منذ البداية حتى آخر السلسلة في المدرسة والصفّ.

وإذ تُعبِّر هذه الورقةُ عن رؤية المشاركين في كتابتها، فهي موجَّهَة لجميع المعنيين بالشأن التربوي في لبنان باعتباره شأناً عامّاً، وباعتبار أنَّه من حقِّنا جميعاً ومن واجبنا أن نُفكِّرَ ببديلٍ جدِّيٍّ عن الممارسات الجارية منذ ثلاثة عقود في حَوْكمة الشأن التربويّ عموماً وصناعة المناهج بخاصة. وإذا كانت انتفاضة 17 تشرين 2019 قد عبّرت عن الاعتراض العامّ على جملة النظام السياسيّ، والنظام التربويّ هو جزء منه، فإنّ هذه الورقة تُحاوِل رسمَ علاماتِ التغيير المطلوب في حقلٍ مُعيَّن هو حقلُ المناهج.


أوَّلاً: مبــادئ ومنطلقــــات (سياسات) عامّة 


1. العدالة والإنصاف:

(...) اعتماد مفهوم الإنصاف، المشتقّ من مفهوم العدالة، في مواجهة اللامساواة في الفرص الدراسيّة كمّاً ونوعاً.

(...) بيداغوجيا الإنصاف تعني إعطاء الأكثر لمن يحتاج إلى أكثر، أي التمييز الإيجابيّ. و"إعطاء الأكثر" يتمثَّل في تقديم الوقت الإضافيّ والمواد والموارد والدعم الإضافيّ، وتنويع العمليّات والأساليب التعليميّة والأنشطة التربويّة، بصورةٍ منظَّمةٍ وغير منظَّمة. وهذا يُغيِّر كثيراً في بيداغوجيا التعليم التي تُقرِّرها المناهج ويُطبِّقها التربويّون. (...)

2. الاندماج الاجتماعيّ

(...) الاندماج الاجتماعيّ هو العنوان الإجماليّ للسياسة التي يجب اعتمادُها في النظام التربويّ في لبنان. وهو غير "الصَّهْر الاجتماعيّ" الذي يحمل دلالةً استبداديَّة. سياسة الاندماج الاجتماعيّ تجمع بين التنوُّع والاختلاط والاعتراف المتبادَل وتكافؤ الفرص في إطارٍ من الحوكمة الديمقراطيّة، وتقوم على الثقة بالدولة، وبأنّ فرص التغيير متاحةٌ للجميع بالأساليب التي يكفلها القانون.

دور الدولة مركزيّ في توفير الاندماج الاجتماعي. ليس فقط بسبب القانون الذي تُطبِّقه إنّما أيضاً بسبب دورها الحاضن لكلِّ النظام التربويّ ولجميع اللُّبنانيين والمُقيمين.

(...) من هذه الناحية تعتبر المناهج الرسميّة نصّاً تأطيريّاً لكلِّ مضامين التعليم وطرقه يصدر عن الدولة ويستلزم تطبيقُه الإشرافَ الفعليَّ على القطاعين الرسميِّ والخاصّ. كما يستلزم تسييرَ القطاع الرسميّ، بصورةٍ يُنافس فيها الخاصّ في جودته. أمّا إذا كان إصدارُ المنهاج عن الوزارة هو ترتيبٌ ظاهرُهُ مكتبيٌّ وباطنُهُ توزيعُ حُصص، فإنّ هذا يُصبِح نوعاً من الخِداع. وإذا كان منظَّماً بطريقةٍ جامدة، يُصبح الإقصاءُ والتمييزُ هما القاعدة، وليس الاندماج الاجتماعيّ. ومن الواضح حتّى الآنَ أنَّ التعليمَ الرسميَّ يجري إفقاره وتهميشه، والمدارس الخاصّة متروكة للتدابير التي تراها مناسبة لكي "تلحق" جمهورها، المتباعِد اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً. وإنّ الضحايا الحقيقيين هم الطلبة الملتحِقون بالمدارس، وأولاء الذين يجب أن يكونوا على مقاعد الدراسة وقد جرى إهمالهم.


ثانياً: مبادىء ومنطلقات (سياسات) تربوية


3. جودة التعليم

يُعتبَر التعليم في لبنان مُنتِجاً لرأسمال إنساني يُوازي في قيمته الرأسمال الاقتصادي، وذلك لأسبابٍ تاريخيَّة معروفة.

تُظهِر الاختباراتُ العالميّة (مثل تيمس وبيزا) أنَّ مستوى الطلبة في لبنان يتراجع باضطراد، حتّى أصبح هذا البلد في آخر تطبيق لهذه الاختبارات، في المرتبة الأخيرة بين البلدان العربية. كما تُظهِر هذه الاختبارات أنّ هناك تفاوتاً كبيراً بين المدارس والمناطق والقطاعين الرسميّ والخاصّ، وأنَّ هناك جُزُراً للجودة ومحيطاً كبيراً للرداءة مِمّا خفَّض مستوى الأداء على المستوى الوطني. ويُلاحَظ أنَّ وزارة التربية لم تنشر يوماً أيَّ تقرير يُشخِّص هذا التراجع ويُحدِّد العوامل المؤثِّرة، ولم تحدِّد ماهيّةَ التدابير التي يجب اتّخاذُها من أجل معالجة هذا التدهور في مستوى تحصيل الطلبة. ولم يصدر أيُّ تقرير حكوميّ يُحدِّد الخسائرَ التعلميَّةَ الناجمة عن الأزمات التي تعصف بلبنان منذ أكثر من ثلاثة عقود وآخرها أزمة جائحة كورونا والأزمة الاقتصاديّة. وتجاهل حصول هذه الأزمات وعواملها ومضاعفاتها على النشء اللبنانيّ عند تصميم مناهج جديدة، يدلّ على انعدام الرؤية ويفضي إلى إدامة الوضع القائم. (...)

4. التكامل بين المناهج ومكوِّنات النظام الأخرى

لمّا كانت المناهج نصّاً تأطيريّاً، فإنَّ أيَّ تجديد فيها يفرض إحداث تغيُّرات متزامنة في المكوِّنات الأخرى ذات العلاقة، وأبرزها: التقييم المدرسيّ، الامتحانات الرسميّة، التقييم المؤسسيّ، تعيين المعلِّمين وإعدادهم، تدريب المعلِّمين والمديرين، الإشراف التربويّ وتقييم الأداء، والتعليم الإلزاميّ، والخريطة المدرسيّة، وغيرها. وهذه التغيُّرات تتمّ عن طريق استبدال مفاهيم وممارسات وأنظمة قائمة بمفاهيم وممارسات وأنظمة تتّسق مع المناهج الجديدة. ويقتضي ذلك أن تصدر المناهج ضمن سياق شامل من الخطط والقوانين التي تصدر عن مجلس النوّاب والحكومة والوزارة وربّما عن وزارات أخرى غير وزارة التربية والتعليم العالي. هذا التكامل أصبحت الحاجة إليه ملحَّةً بعد تفاقم تردّي الوضع التربويّ في لبنان في أبعاده كافّة، خلال عقودٍ عِدّة.

5. المدرسة هي وكالة عامّة للتنشئة الاجتماعيّة

(...) إنَّ المدرسة، أكانت رسميّةً أم خاصَّةً، هي المؤسَّسة الوحيدة بين مؤسَّسات التنشئة الاجتماعيّة التي يقع صلبُ عملِها ضمن حقل الشأن العامّ والمصلحة العامّة، وطبقاً للأهداف المعلنة للمنهج الرسميّ الصادر عن السلطات العامّة في لبنان. وأيُّ تسلُّل للمنهج غير الرسميّ أو غير النظاميّ الذي تبثُّه الأحزاب أو الجماعات السياسيّة داخل المدرسة يُعتبَر معاكساً للشأن العامّ ومخالفاً للقانون. إنّ التشبُّثَ بالمادَّة العاشرة من الدستور، لا يعني أنّ الدولة هي إدارة للترخيص، أو أنّها مكانٌ للتوظيف. الدولةُ هي سلطةٌ لها معايير ومبادئ، ترعى التنشئة الاجتماعيّة في المدارس على المستوى الوطنيّ. جميع المدارس، الخاصّة والرسميّة، تقع تحت مظلَّة الدولة. ومن ناحية مدّة التعليم يجب أن تحظى الدراسة في المدرسة بدوامٍ أطول، في اليوم الواحد وفي عدد الأيّام الدراسيّة، بما يُعزِّز مكانة المدرسة في التعلُّم وتكوين الرأسمال الاجتماعيّ والانتماء إلى الشأنِ العامّ.


ثالثاً: مقاربات بناء المناهج


يحتاج بناء مناهج جديدة إلى تبنّي مقارباتٍ جديدة، تعاكس المبادئ المضمرة والممارسات الظاهرة في صناعة المناهج وتطبيقها في لبنان حتى تاريخه.

6. المقاربة البنائيّــــــــة الاجتماعيّة

المقاربة البنائيّة الاجتماعيّة في وضع المناهج وتطبيقها، تقوم على أنّ التعلُّم لا يتمّ بناءً على ما يسمعه المتعلِّم حتّى ولو حفظه وكرّره أمام المعلِّم، وأنّ المتعلِّم يبني معرفتَه داخليّاً متأثِّراً بالبيئة المحيطة به، وأنّ لكلِّ متعلِّمٍ طريقةً وخصوصيّةً في فهم القضايا وليس بالضرورة أنْ يفهمَها كما يريدها المعلِّم، وأنّ التعلُّم يتمّ من خلال الملاحظة والمعالجة والتفسير أو التأويل بناءً على البنية المعرفيّة الخاصّة بالفرد، وأنّ تعلُّم الفرد يتمّ عندما يكون في سياقات حقيقيّة واقعيّة وتطبيقات مباشرة تسمح للمتعلّم بأنْ يُكوِّنَ معنىً خاصّاً به. إنَّ هدفَ المعلِّم الأساسيّ هو دعمُ المتعلِّم حتّى يُصبِحَ مفكِّراً فعّالاً. (...)

هذا المبدأ هو عكس المبدأ المعمول به في المناهج اللبنانية والَّذي يتلخَّص في تلقين اليقين، الذي تُبيِّن سائر الدِّراسات أنَّ المدارسَ بمعظمها تمارسه.

7. المقاربة الشموليّة

(...) يُعاكِس هذا المبدأ القاعدة المتَّبعة حاليّاً في بناء المناهج وتطبيقها والتي تتلخَّص في الكتاب المدرسيّ الواحد (والموحَّد) وفي اتِّباع طرق تعليميّة على قاعدة التعليمات الأحاديّة المقرَّرة كليّاً بصورةٍ مسبَقة للمعلِّمين والمديرين والموجِّهين التربويين، على الجميع، وكأنّ هؤلاء وطلابَهُم هم مُتلقّون فقط.

وقد جرت العادة في تنظيم المناهج في لبنان على قاعدة أنْ يدرسَ جميعُ الطلبة جميعَ الموادّ التعليميّة بالعدد نفسه المحدَّد لساعات التعليم منذ الصفِّ الأوَّل الابتدائيّ حتّى نهاية التعليم الأساسيّ. صحيح أنّ هناك "نواة مشتركة" من المعارف والقِيَم والمهارات يُقرِّر المجتمع (عبر وثيقة المناهج) أنْ يدرسَها جميعُ الطلبة، لكنّ الصحيحَ أيضاً أنْ تُعطِيَ المناهجُ الفرصةَ للطلبة الأفراد بالاستزادة والاختيار. وهذا يأخذ ثلاثة أشكال من الإتاحة أمام الراغبين منهم: مقرَّرات إضافيّة (قد تكون متعمِّقة في المادّة نفسها أو تكون ذات طبيعة داعمة)، مقرَّرات اختياريّة، وأنشطة لا صفيّة.

8. المشاركة

(...) بحسب الممارسات السابقة في بناء المناهج في لبنان تقوم المشاركة على تشكيل اللِّجان على قاعدة التمثيل السياسيّ وتوزيع المغانم والمناصب والقِيَم والمعارف التي تتضمّنها المناهج على الجهات السياسيّة، ويتمّ ذلك في إطار مشروع مموَّل تديره "مجموعات خارجيّة إنقاذيّة"، يجري التفاوض بينها وبين ممثِّلي الأحزاب على التنازلات والمكاسب، برعاية الحكومة.

الجهات التي تُشاركُ في بناء المناهج وتطويرها يجب أن تكونَ جهات مهنيّة وأكاديميّة. وهذه تضمّ الفئات التي سوف تعلِّم (هيئات المعلِّمين) والتي سوف تدير العمليّة التعليميّة (الإداريّون في الوزارة وفي المدارس) والجهات التي تُعِدّ المعلِّمين ومديري المدارس (كليّات وأقسام التربية في الجامعات)، والجهات التي لها مساهمات نظريّة وعمليّة في العلوم التربويّة (الجمعيّات التربويّة)، والجهات المعنيّة بنواتج المناهج (روابط الأهل)، والمنخرطين في تأليف الكتب المدرسيّة (المؤلِّفون والجهات المنتِجَة)، والجهات المستفيدة (روابط الطلبة). وفي هذا السبيل يجب اعتماد استراتيجيّة واضحة توفِّر أفضل الطرق لمشاركة هذه الجهات، مع التركيز على التوصيف الوظيفيّ المعلَن للمشاركين.

9. التركيز على المبادئ والمعايير

جرت العادة أنْ تصدر المناهج بمرسوم وأنْ تأخذ شكلَ وثيقة ضخمة. وهذان الأمران يجعلان تعديل المناهج تبعاً للتطوُّرات في العلوم التربويّة وفي الظروف الاجتماعيّة صعباً ويحتاج إلى تدابير ضخمة. لذلك يُقترَح أن تكونَ وثيقة المناهج قصيرةً وتقتصر على المبادئ الكبرى وعلى المعايير الأساسيّة لكلِّ مادّة وصفٍّ ومرحلة. وأن ترفق بها أدلَّة إرشاديّة. وتُترك التفاصيل للمؤلِّفين. وفي هذه الحالة يترك الباب لحريّة التّأليف، على أنْ تخضعَ الكتبُ والمُعيناتُ التربويَّةُ لِرقابةِ الوزارة أو الجهة التي تُكلِّفها الوزارة، التي تفحص المنتوجاتِ التربويّةَ وأساليبَ تطبيقِها استناداً إلى تلك المبادِئ والمعايير. (...).

لا نحتاج إلى مناهج جديدةٍ فقط بل نحتاج في الوقت نفسه إلى وضع قواعدَ جديدةٍ لبناء المناهج على أساس المبادئ والمقارباتِ المقترحة في هذه الورقة وغيرِها.

10. تماسُكُ المِنهاج

(...) يجب تقليلُ عدد الموادّ الدراسيّة وكتبها في المرحلة الابتدائيّة، عن طريق دمجِها في مجموعاتٍ، وبما يُسهِّل التعليمَ عن طريق المحاور أو القضايا وتوفير التكامل والتداخل بين الموادّ الدراسيّة.

وإذا كان لكلِّ مرحلةٍ (أو حلقة) دراسيّة ما يُميِّزها من غيرها، فإنّ هناك روابطَ وتدرُّجاً بين الحلقات وداخل كلٍّ منها على حِدَة. الرَّوابط تشدُّ الأجزاء بعضها إلى بعضٍ وتُؤمِّن التكاملَ بين الموادِّ والأنشطة. كذلك ثمّةَ نسق للتدرُّج في المعارف والقِيَمِ والمهارات من صفٍّ إلى صفٍّ ومن مرحلةٍ إلى أخرى، بما يُؤمِّن التراكمَ، والتعمُّقَ والتجريدَ والطلاقة. ولا بدَّ لنصوص المناهج مِنْ أن يتوافر فيها التوافق بين الأهداف المعلَنة للمناهج: الأهداف العامّة، والأهداف الخاصّة بالمراحل الدراسيّة وتلك الخاصَّة بالموادِّ الدراسيّة. (...)


رابعاً: الملامـــح المتعلِّقــة بمجموعات المواد 



يُوفِّر النظر إلى الموادِّ الدراسيّة باعتبارها جزءاً من مجموعات أكبر أُطُراً تُظهِر الروابط بينها وكيف يخدم بعضُها بعضاً. وهذا الأمر مفقود أيضاً في بناء المناهج سابقاً وحاليّاً.

11. مجموعة العلوم والرياضيّات والتكنولوجيا

يُقدِّم الإطار الجامع للعلوم والرياضيّات والتكنولوجيا فرصةً لربط المفاهيم المختلفة بعضها ببَعضٍ ومع قضايا العالم الحقيقي في أثناء التعلُّم وبخاصّةٍ لفهم المشكلات المعقَّدة والابتكار لحلِّها. ويتحوَّل التركيزُ من مساعدة الطلّاب على اكتساب المعرفة وإتقانها إلى تعزيز مهاراتهم في حلِّ المشكلات والتفكير النقديّ لاتِّخاذ القرارات المتعلِّقة بالقضايا اليوميّة ذات العلاقة. عمليّاً تُوفِّر هذه النظرة الجامعة تحوُّلاً من التركيز على حلِّ المشكلاتِ الأكاديميَّةِ إلى معالجة مُشكلاتِ الحياة الواقعيّة، وبالتالي تقليل نفور الطلاب في المدرسة. (...)

12. مجموعة اللُّغات

يُزوِّد تعلُّم اللُّغات المتخرّجين بما يُسمّى الرأسمال اللُّغوي. وقد شكَّل هذا الرأسمال وما زال يُشكِّل واحدةً من الميزات التفاضليّة للبنان في الثقافة والاقتصاد. ومن هذه الناحية، تُعتبَر جودة الأداء اللُّغوي، في لغتين أو أكثر باباً لتحسُّن الأداء في ميادين المعرفة الأخرى (أو الموادّ التعليميّة الأخرى) وباباً للانخراط لاحقاً في البحوث العلميّة والإبداع والتطوير. وبالمثل فإنّ تردّي تعلُّم اللُّغات، وبخاصةٍ في اللُّغة الأم، يُعتبَر منزلقاً سلبيّاً على الصعيدين الفرديّ والوطنيّ، المهنيّ والثقافيّ. (...)

وهذا يفرض مقارباتٍ تعليميّةً مشتركة تُخرِج تعليم اللُّغة العربيّة من المقاربات والأساليب التقليديّة التي تُنفِّر المتعلِّمين وتُنمّي مواقف اجتماعيّة مهمِّشة للُّغة العربيّة، وتدفع إلى الاعتقاد بأنّ "تقدُّم" المجتمع والحراك الاجتماعيّ للأفراد مقرونان فقط بتعلُّم اللُّغات الأجنبيّة.

13. مجموعة الاجتماعيّات

تتضافر مجموعة الاجتماعيّات (التاريخ والجغرافيا والتربية المدنيّة وغيرها) في التكوين المدنيّ للمتعلِّم. وهذا التكوين يتوزَّع على أربعة عناوين:

الثقافة، أي ما يتشاركه أبناءُ المجتمع من نظم قِيَم ومعتقدات ومعارف واصطلاحات اجتماعيّة (social codes)، وما يتباينون فيه، كأفراد ومجموعات وجماعات ومنظَّمات وهيئات. والثقافة هي أساس الانتماء والهويّة. (...)

التغيُّر الاجتماعي. فالتاريخ ليس سلسلة أحداث نجمت عن صراعٍ بين أبطال وأشرار وبين منتصرين ومهزومين، هو سيرورة متعدِّدة الأبعاد، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مستتر (...). والتغيُّر الاجتماعيّ ليس مستقيماً (linear) بل لولبيّاً، فيه ثوابت وفيه تحوُّلات. وكلّ ذلك يفرض تعليمَ الاجتماعيّات وبخاصّةٍ التاريخ بعقلٍ منفتح على سائر الطروحات، ضمن سياق ما يُسمّى بالتفكير التاريخي.

المواطنة. هو مصطلح يُلخِّص علاقة الفرد بالدولة. وهي علاقة إدراكيّة وسلوكيّة (...) ضمن المبادئ المقرَّرة كالحريّة والديمقراطيّة والمشاركة السياسيّة والمسؤوليّة الاجتماعيّة وثقافة القانون والواجبات والحقوق والشأن العام والحقّ العام، والحوار والتفاوض، وغيرها.

العولمة. وهي تُحيل إلى الاتِّصال الوثيق بين الدول والمجتمعات، والانتماء إلى كوكب، وما يفرضه ذلك من تفاعلٍ ومواطنة عالميّة والحرص على الالتزام بالمواثيق الدوليّة، والاهتمام بالقضايا العالميّة المعاصرة (...) وتُشكِّل دراسة الجغرافيا الطبيعيّة البشريّة والسياسيّة والخرائط الجيو- سياسيّة والدراسات المقارنة بعضاً من مداخل المنظور العالميّ للتعليم.

14. مجموعة الفنون

العمل الفنيّ في مرحلة التعليم الأساسي هو لغة المتعلِّم الصادقة، لأنّ المتعلِّم يتحاور بواسطة العمل الفنيّ مع ذاته قبل أن يُخاطِبَ غيرَه. لذلك ليس الهدف من تعليم الفنون إعداد فنّانين، ولو أنّه ينبغي العناية المتقدِّمة بأصحاب المواهب، بل ينبغي التركيزُ على تطوير بنية المتعلِّم الشخصيّة من خلال:

1) التركيز على إطلاق التعبير الذاتيّ وممارسة الخيال والإبداع وإنتاج رموز المتعلِّم الخاصّة، مع عدم وضع قيود على حريّة التعبير الفنيّ

2) اكتساب مهارات استعمال الموادّ والأدوات الفنيّة والتعرُّف إلى تقنيّاتها

3) التعرُّف إلى بعض الاتِّجاهات والمدارس الفنيّة التي تكشف انتماء المتعلِّم الفنيّ، (...)

4) الانخراط بالموادّ الدراسيّة الأخرى (...)

5) الانخراط الاجتماعيّ من خلال العمل الجماعيّ، وصياغة أعمالٍ فنِّيّة ذات صلة بالمجتمع.


خامساً: ملامح خرّيجي التعليم الأساسيّ



لم يكن شائعاً في بناء المناهج في لبنان وضع صورة عامّة متوقَّعة عن ملامح الخرّيجين. وتوفير هذه الصورة يسمح بالتفكير المسبَق بما نتوقّع أن تُحقِّقه المناهج، وبضبط عمليّات التقييم المدرسيّ والنهائيّ على ضوئها، ثمّ باستخدام هذه الملامح لاحقاً لفحص ما تحقَّق منها. ويُمكِن التفكيرُ بأربعة ملامح رئيسة.

15. المعرفة

(...) المعرفة تتجاوز المعلومات. وهي بديل عن الأحكام المسبَقة والمواقف الأيديولوجيّة والانغلاق الفكريّ، وبخاصّةٍ قِيَم الخضوع (خضوع الصغار للكبار، والفئات الدنيا للفئات العليا، والإناث للذكور، إلخ) والقِيَم المرتبطة بالنزاع السياسي بين الأحزاب والجماعات السياسيّة. وهذا يعني عمليّاً إخضاع كلّ موضوع للفحص المعرفيّ، استناداً إلى الموارد والحجج المعرفيّة.

والمعرفة تعني تبنّي استراتيجيّات ما وراء المعرفة، أو تمكين المتعلِّمين من التفكير في طريقة تفكيرهم. وهذا يشمل تخطيط الطلبة لتعلُّمهم، وتدوين الملاحظات مع الانتقال من خطوة إلى أخرى، وتقييم التعلُّم، والتفكير بصوتٍ عالٍ. وهذا يُعزِّز القدرة الشخصيّة على التنظيم الذاتيّ وإدارة دوافع الفرد للتعلُّم والتعلُّم المستقِلّ. ويُساعِد المتعلِّمين على ممارسة التنظيم الذاتيّ للتعلُّم، ورصد نقاط القوّة والضعف لديهم، ويُحفِّزهم على المشاركة في تعلُّمهم وتحسينه.

صحيح أنّ اعتمادَ الحجّة والدليل في التفكير النقدي والتقصّي وغيرها من مهارات التفكير مشترك بين جميع الموضوعات والموادّ الدراسيّة إلّا أنّ المعرفة تعني أيضاً التفكير المتَّسِق مع طبيعة الموضوع، كالتفكير العلمي، والتفكير التاريخي، والتفكير الجغرافي، والتفكير المدني (ثقافة القانون)، إلخ. فكلّ حقلٍ معرفيّ له منطقه ومصطلحاته، إلخ.

16. القِيَم والمواقف

إنّ تسليطَ الضوء على المعايير الأخلاقيّة وتمييزها من القواعد المتعلِّقة بالأدب أو الملاءمة الاجتماعيّة ليس مهمّاً فقط للفضائل الأخلاقيّة للطلّاب، ولكن أيضاً لقدرتهم على الانخراط بشكلٍ نقديٍّ في اكتساب المعرفة مِن دون قيود مجتمعيّة مع احترام الواجبات المدنيّة. ولقدرتهم على "رؤية" الفساد المستشري في الدولة والمجتمع، واتخاذ مواقف يوميّة منه. مِنْ أهمّ المعايير الأخلاقيّة التي يجب أن يكون الطلبة قد اكتسبوها احترامُ بعضنا البعض من خلال هذه الاختلافات التي يجب تقديرها جدِّيّاً. التركيز على المساواة الأساسيّة للبشر بغضّ النظر عن الجنس أو الطبقة أو العِرق أو الطائفة أو حتى الخلافات التي تحتاج إلى مكانة مركزيّة في المناهج الدراسيّة. ومنها النزاهة والشعور بالمسؤوليّة والمحاسبة. (...)

17. المهارات والأداء

عادةً ما تُحدَّد المناهج التقليديّة على أساس الموادّ التعليميّة، في حين أنّ الطالب الذي يتخرّج من التعليم الأساسيّ يجب أن يكتسب مهارات ذات طبيعة عامّة، عابرة للمناهج، تتعلّق بأهليّته كعضو اجتماعي وكائن مدنيّ. ويُمكِن وضعُ هذه المهارات في أربع مجموعات: المهارات التواصليّة (...)، المهارات الرقميّة (...)، المهارات المعرفيّة (...)، المهارات الصحيّة أو البدنيّة (...).

18. التذوُّق الفنيّ والحكم الجماليّ

يُقصَد بالتذوُّق الفنيّ قدرة المتخرِّج في مرحلة التعليم الأساسي على تذوُّق المنتوجات الفنيّة، من موسيقى ورسم ونحت ومسرح وآداب وغيرها، والاستمتاع بها. ويُقصَد بالحكم الجمالي تقرير مدى جمال الإبداعات الفنيّة والمشاهد الطبيعيّة، والتمييز بينها. وهذا يُبنى على التعرُّف إلى مروحة واسعة من الأعمال الفنيّة وتشرُّب معايير تقييمها واكتساب القدرة على التمييز بينها وإظهار مكامن الإبداع والجمال فيها والتمتُّع بها. التذوُّق الفنيّ والقِيَم الجماليّة هما مسألة فرديّة (ذاتيّة) وعالميّة (كونيّة) في الوقت نفسه. هي فرديّة لأنّ لكلِّ فردٍ ذوقه وحساسيّته واهتمامه، وهي كونيّة لأنّ الروائع الفنيّة هي روائع عالميّة. وهذا الجانب العالميّ هو ما يسمح بتعلُّم المعايير الجماليّة.

*******

- مجموعة العمل: عدنان الأمين(1)، سلام بدر الدّين(2)، بانة بشّور(3)، صَوْما بوجوده(4)، نايلة خضر حمادة(5)، عمر قيسي(6).

- شارك في كتابة بعض الفقرات: مها شعيب(7) (المشاركة)، عادل قديح(8) (الفنون)، هيثم قطب(9) (اللُّغات).

- شارك في مناقشة هذه الورقة وقدَّم اقتراحاتٍ بصددها عددٌ من الزملاء، منهم: أمل بوزين الدين(10)، غادة جوني(11)، نضال جوني(12)، فادية حطيط(13)، بشار حيدر(14)، سوزان عبد الرضا(15)، سيمون عبد المسيح(16)، باسل عكر(17)، منى فواز(18)، جنان كرامي-شيا(19)، ريما كرامي-عكاري(20).

(1) أستاذ في الجامعة اللبنانية

(2) مديرة دار المعلِّمين في النبطيّة سابقاً

(3) أستاذة في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(4) أستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(5) اختصاصيّة في تعليم التاريخ

(6) أستاذ في جامعة أدنبره- إسكتلندا

(7) أستاذة في جامعة كامبريدج

(8) أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

(9) أستاذ في الجامعة اللبنانيّة

(10) أستاذة في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(11) أستاذة في الجامعة اللبنانية

(12) محاضرة في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(13) أستاذة في الجامعة اللبنانيّة

(14) أستاذ في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(15) أستاذة في الجامعة اللبنانية

(16) أستاذ في الجامعة اللبنانية

(17) أستاذ في جامعة سيدة اللويزة

(18) أستاذة في الجامعة الأميركيّة في بيروت

(19) أستاذة في جامعة البلمند

(20) أستاذة في الجامعة الأميركيّة في بيروت


MISS 3