تشارلز ليستر

التغيير مطلوب في سوريا في حقبة ما بعد الحرب

4 شباط 2023

02 : 00

صوَر الرئيس السوري بشار الأسد معلّقة في دوما، بالقرب من العاصمة دمشق | سوريا، 26 أيار 2021

من المنتظر أن تدخل الأزمة السورية عامها الثالث عشر في شهر آذار. لا يزال مستوى العنف في أنحاء البلد منخفضاً نسبياً اليوم مقارنةً بالسنوات السابقة، لكن يبقى انتهاء الأزمة بعيد المنال. داخل سوريا، تستمر ستة صراعات متفرقة على الأقل وهي تشمل جهات محلية وحكومات خارجية حتى هذا اليوم، وتنذر جميع المؤشرات بتفاقم تلك الصراعات كلها بدل انحسارها.




في غضون ذلك، لا يزال البلد غارقاً في الخراب، ويبدو المجتمع مفككاً، ويبقى نظام بشار الأسد منبوذاً على الساحة الدولية. كذلك، تشدد جميع الاستطلاعات المرتبطة باللاجئين السوريين في الدول المجاورة لسوريا على عدم نيّتهم العودة إلى سوريا التي يحكمها الأسد. في العام 2022، زادت هجرة السوريين غير الشرعية إلى أوروبا بنسبة 100%. تشير هذه العوامل كلها إلى التطورات المرتقبة في العام 2023.

باستثناء الحملة المستمرة ضد تنظيم "داعش"، لم يعد أحد يتطرق إلى شؤون سوريا لأنها أصبحت مسألة ثانوية بالنسبة إلى معظم الأطراف الأخرى. من الشائع في السنوات الأخيرة مثلاً أن نسمع مزاعم عن "انتصار الأسد" أو "انتهاء الحرب". قد تنجم هذه المواقف عن التعب من الصراع أو عن تحليلات صادقة، لكنها لم تكن دقيقة في العام 2019 ولم تصبح كذلك اليوم. مع اقتراب الانتخابات في تركيا، وتعثر روسيا في أوكرانيا، وتفاقم أزمة الطاقة في إيران، واستمرار الأعمال العدائية الإقليمية المرتبطة بطهران، قد تتخذ الاضطرابات المتوقعة في سوريا خلال السنة الجديدة منحىً خطيراً.

قد لا تكون التحذيرات المرتبطة بموجات جديدة من الفوضى في سوريا ظاهرة مستجدة، لكن ينذر العام 2023 باضطرابات قد تغيّر قواعد اللعبة. من المتوقع أن تُحدِث التطورات الاستثنائية في تركيا وروسيا وإيران تغيرات بارزة، لكن تتعلق أهم الديناميات المؤثرة بالاقتصاد والوضع السائد في المناطق المحسوبة على النظام.

على عكس الأوضاع التي استمرت لأكثر من عشر سنوات، تدهورت ظروف المعيشة في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري اليوم. في أي يوم "مقبول" داخل العاصمة دمشق، يستفيد الناس من ساعتين أو ثلاث ساعات من الكهرباء في الوقت الراهن. لكن بدأ الكثيرون اليوم يحرقون قشور الفستق، والمطاط، أو حتى البراز، لتدفئة المنازل. وفي ظل ارتفاع التضخم، يبلغ متوسط الراتب الشهري في دمشق راهناً 100 ألف ليرة سورية (حوالى 15$)، لكن تتراوح كلفة المعيشة للأسرة الواحدة بين 2.8 مليون ليرة سورية (حوالى 427$) و4 ملايين (611$)، أي ما يساوي زيادة بمعدل 5800% منذ العام 2015.

بدأت كلفة المعيشة ترتفع في أنحاء سوريا منذ فترة، لكنها بلغت ذروتها في مناطق النظام منذ أواخر العام 2022، بعد قرار إيران بمضاعفة سعر النفط الذي تقدّمه إلى سوريا (70$ للبرميل الواحد) وإصرارها على تلقي دفعة مسبقة. بسبب هذه السياسة المشتقة من الأزمة الاقتصادية التي تواجهها إيران محلياً، تراجعت شحنات الوقود إلى سوريا بنسبة 52% بين تشرين الأول وتشرين الثاني 2022. انطلقت آخر سفينة إيرانية تحمل النفط إلى سوريا في كانون الأول، وما من خطط لإطلاق سفن أخرى على ما يبدو قبل شهر آذار، ما يثبت أن أزمة الوقود التي تشهدها سوريا في ذروة الشتاء هي مجرّد بداية لأزمات أخرى.

تستطيع الميزانية السنوية أن تؤمّن 30% فقط من حاجات سوريا إلى الوقود للعام 2023، لكن كان الوضع كذلك عندما اقتصرت كلفة الإمدادات الإيرانية على نصف أسعارها الراهنة. نتيجةً لذلك، أدى التراجع الهائل في حجم الإمدادات وإصرار إيران على تلقي مبلغ نقدي إلى تداعيات كارثية في المناطق السورية المحسوبة على النظام. خلال ثلاثة أشهر، زادت كلفة السلع الغذائية الأساسية بنسبة 30% وارتفعت كلفة الوقود بنسبة 44%. في الوقت الراهن، يشتري راتب شهري كامل حوالى غالونَين من الغاز. وتزامناً مع تحليق أسعار النقل والكهرباء، يعجز الناس اليوم عن الوصول إلى عملهم. تتجه المصانع والمخابز إلى إقفال أبوابها، وبدأ قطاع إنتاج مشتقات الحليب ينهار، وبات دوام العمل الأسبوعي يقتصر على أربعة أيام. ولولا سرقة روسيا للحبوب الأوكرانية على نطاق صناعي في العام 2022، كانت سوريا لتواجه أيضاً أزمة كارثية في قطاع الحبوب.

لا تُعتبر هذه المعاناة مستجدة في حياة السوريين للأسف، لكن تبقى الأحداث التي تشهدها مناطق النظام راهناً غير مسبوقة، وهي تتزامن مع تراجع الأعمال العدائية إلى أدنى المستويات. بعد اختفاء الطبقة الوسطى في سوريا وزيادة الحرمان الذي يعيشه السوريون رغم تلقيهم رواتب جيدة، بدأت هذه الظروف تنتج ضغوطاً هائلة. كما يحصل في اقتصادات الحرب، بدأ المسلحون يطاردون المدنيين الآن ويبحثون عن مصادر دخل إضافية. تفيد مصادر من داخل مناطق النظام بأن الأجهزة الأمنية تعمد إلى ابتزاز الشركات الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة. بدافع من الجشع والفساد، ونظراً إلى حاجة النظام المُلحّة إلى ملء خزائنه الفارغة، تتعرض مئات الشركات التابعة للنظام للإكراه ضمناً وتواجه اضطرابات وتهديدات بالخراب منذ العام 2020.

على صعيد آخر، بدأت الاضطرابات تتصاعد، وأصبحت محافظة درعا الجنوبية الأكثر اضطراباً في سوريا. تقع في جوارها محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية، وينظم المحتجون هناك مظاهرات شعبية متواصلة منذ سبعة أسابيع في وسط المدينة ويطالبون بتغيير سياسي، وإصلاحات اقتصادية، وإطلاق سراح عشرات آلاف المعتقلين السياسيين، والتفاوض على تسوية سياسية لحل الأزمة السورية. في الوقت نفسه، بدأت مظاهر السخط العام تتصاعد ضد فساد النظام وقلة كفاءته، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي. حتى أن عدداً من أشرس الموالين للنظام بدأ يحقق بقضايا الفساد وقد اختفى بعضهم نتيجةً لذلك.

لكن بعدما أصبح السوريون الخاضعون للنظام على شفير الهاوية بسبب الانهيار الاقتصادي، يبدو النظام أغنى مما كان عليه يوماً. رغم التقارير الاستقصائية المتكررة، تتابع الشخصيات التابعة للنظام والخاضعة لعقوبات دولية تلقي عشرات ملايين الدولارات من أموال الأمم المتحدة. تشير دراسة جديدة إلى توزيع مبالغ بقيمة 140 مليون دولار على الأقل من الأمم المتحدة، في العامين 2019 و2020، لصالح كيانات تملكها شخصيات مثل ماهر الأسد، ونزار الأسد، وسامر فوز، وفادي صقر، أو على صلة بها، علماً أن هذه الأسماء تخضع للعقوبات بسبب تورطها في جرائم الحرب أو ارتباطها بها.

لكن بعد عزل النخبة التابعة للأسد عن الاقتصاد العالمي، انتقل النظام إلى المخدرات كمصدر لتلقي مداخيل استثنائية، فبات اقتصاد الدولة يتكل على المخدرات ويحمل بُعداً عالمياً. في العام 2021، صادرت السلطات في أنحاء الشرق الأوسط وفي أماكن بعيدة مثل السودان، وماليزيا، ونيجيريا، مادة الأمفيتامين سورية الصنع (تُعرَف باسم الكبتاغون) بقيمة 5.7 مليارات دولار على الأقل. يكشف مسؤولون استخباريون إقليميون أن الكميات التي تمت مصادرتها تساوي بين 5 و10% من مجموع تجارة المخدرات السورية فقط، ما يعني أن قيمة التجارة للعام 2021 بلغت 57 مليار دولار على الأقل، أي أكثر من ميزانية سوريا بتسع مرات تقريباً وأكثر من مجموع العائدات التي تحصدها الكارتيلات المكسيكية. لا يصل أي جزء من تلك الأموال إلى الشعب السوري طبعاً، بل إنه يُستعمَل بكل بساطة لملء جيوب النخبة الثرية والموالية للأسد.

بدأت الفرقة الرابعة في النظام السوري تتحول سريعاً إلى كيان ذي صلاحيات هائلة نظراً إلى دورها الرائد في تجارة الكبتاغون على أوسع نطاق. في الأسابيع الأخيرة، اتجهت هذه الفرقة التي يقودها شقيق الرئيس السوري، ماهر الأسد، إلى توسيع نفوذها في مناطق النظام بطريقة جذرية، ففرضت سيطرتها الكاملة على جميع مسارات النقل التي تربط لبنان والأردن بسوريا ومختلف الطرقات الرئيسية في غرب سوريا وجنوبها. كذلك، يجري العمل على تجنيد عدد كبير من العناصر لملء مراكز التفتيش التي تنتشر في هذه الشبكة الواسعة من الطرقات، فتنشأ بذلك مسارات آمنة لنقل المخدرات ويترسّخ احتكار الرشاوى المطلوبة للتنقل في أنحاء البلد.

نظراً إلى غياب أي مؤشرات على تباطؤ الانهيار الاقتصادي في سوريا، ستحمل الأشهر المقبلة على الأرجح جميع العناصر التي تُمهّد لانفجار الوضع. باختصار، لا يملك النظام السوري أي أوراق فاعلة لتحسين الأوضاع، ولا تسمح الظروف لإيران أو روسيا بإنقاذه. هذا ما يفسّر حرص روسيا على استكشاف خيار تجديد التواصل مع تركيا، فقد يُمهّد هذا الإنجاز لتغيير قواعد اللعبة وكسر عزلة الأسد. لكن رغم جميع الخطابات العامة والتطورات التي تشير إلى هذا التقارب المتجدد، لا شيء ينذر بتطبيع العلاقات بالكامل.

بعبارة أخرى، من المتوقع أن يستمر هذا المسار أو يتسارع في المرحلة المقبلة. تبقى العودة إلى الحرب الشاملة مستبعدة على الأرجح، لكن لا يمكن الحفاظ على الوضع الراهن إلى أجل غير مسمى، بل تبرز الحاجة إلى إحداث تغيير معيّن للمضي قدماً.


MISS 3