طوني فرنسيس

الزلزال والحدود وذُباب القذافي

9 شباط 2023

02 : 00

خلال عرضه نظرياته الفريدة، إقترح العقيد معمّر القذافي يوماً أن لا وجود لشيء اسمه الحدود بين الدول. ولإثبات ذلك ضرب مثالاً بالطيور والذباب والحيوانات التي تتنقّل بين البلدان غير آبهةٍ بالخطوط التي يرسمها البشر.

لم تكن نظرية العقيد الراحل من دون أساس. المنطاد الصيني فوق الولايات المتحدة هو أحد إثباتات صحّتها، لكن الزلزال الكارثة الذي ضرب كيليكيا فدمّر أجزاءً من تركيا وسوريا وقتل وشرّد الآلاف يستجيب لنظرية الحدود القذافية أكثر من أي مثالٍ آخر، ويجعل قادة السياسة والرأي يذهبون مذاهب شتّى في استخلاص العبر.

دمّر الزلزال المناطق الحدودية بين تركيا وسوريا، وأطاح بجوهر الخطط التركية لشنّ عملية رابعة وخامسة في الشمال السوري. باتت المناطق من قهرمان مرعش وغازي عنتاب وصولاً إلى حلب وحماة والساحل السوري ساحة موحّدة للدمار والضحايا، ولم يعد لمشروع الغزو التركي معنى.

في سوريا أيضاً انتفى معنى الحدود بين مناطق النظام ومناطق الجولاني. في الجهتين شعبٌ مقهورٌ لم يكن ينقصه لإعادة اكتشاف وحدته إلّا غضب الأرض وانزياح فوالقها.

ستكون الأولويّة لأعمال الإنقاذ والإغاثة من دون شك، والعالم كلّه معنيّ بذلك، والجيران في طليعتهم. ومشهد فرق الإسعاف اللبنانية من جيش ودفاع مدني وصليب أحمر على أرض الكارثة في تركيا وسوريا تعبير رمزي وعمليّ عن حسّ التعاطف والواجب.

إنه سلوك طبيعي إنسانيّ، لكن استخلاص العبر مطلوب على مستويات أخرى. فبدلاً من ترنّح أردوغان بين مشروعي اقتطاع الشمال السوري أو المصالحة مع النظام، يجدر به الالتفات إلى سنوات من إهمال بنية تحتية هشّة في جنوب بلاده غير مؤهّلة لمواجهة زلازل متوقّعة. وبدلاً من إثارة النظام السوري مسألة عقوبات دولية معروفة أسباب فرضها، ووضعها في مصاف نتائج الكارثة الطبيعية، يجدر به البحث في أسباب الزلزال السياسي الذي يضرب سوريا منذ 12 عاماً، واغتنام الفرصة لإعادة نصف السوريين إلى أرضهم لإعمارها وإعادة بناء ما هدّمته الطبيعة والبراميل.

بعد ذلك يمكن البحث في جعل الكارثة فرصة لإحياء الاتصال الرسمي السوري- التركي، ومعه إحياء العلاقة الطبيعية بين سوريا ومحيطها.

مقايضة السياسة بالكارثة الطبيعية، أو جعل الكارثة غطاء للهروب من الوقائع السياسية المؤلمة، هو وقوع آخر في المشكلة، وتعميق لها بدلاً من معالجتها. فالتعاون والتضامن لإنقاذ المنكوبين هما الحدّ الأدنى الطبيعي المطلوب في زمن الكوارث. أمّا اشتراط الاتفاق السياسي وطرح المطالب السياسية استباقاً للإغاثة أو شرطاً لها، فهو إمعانٌ في قهر السوريين والأتراك طلباً لشرعية أو لكرسي، واستطراداً هو إبعادٌ للعالم عن القيام بواجبه الإنساني الأولي.

لقد طارت الحدود في ثوانٍ وباتت الأولويّات في مكان آخر، من لا يزال يصنع حدوداً موهومة على قياس مصالحه السياسية، فستقوده أوهامه إلى تمنّي تحرّك الفالق الأفريقي بأكمله، فربّما يتخلّص ساعتها من خصومه، ويحرّر فلسطين، ويظفر بما تبقّى إلى جانب ذُباب القذافي.


MISS 3