عيسى مخلوف

قصّة الغول!

11 شباط 2023

02 : 01

فنّ المال

صدرت في السنوات الأخيرة في الغرب دراسات وكتب عدّة حول دور المال في السياسة، وحول العلاقات الظاهرة والخفيّة بين أوساط رجال الأعمال والأوساط السياسيّة، وكشفت التشوّهات المحتملة التي تدخلها الأموال في النظام الديمقراطي بشكل عامّ، والتي لا تقتصر على تمويل الحملات الانتخابيّة. لكن، يوماً بعد آخر، يجتاح قطاع المال القطاعات كلّها، فيقوم بدور أساسي في تحديد تغيّراتها ورسم هويّاتها الجديدة وفق معايير مادية محدّدة. من القطاعات التي يعمل المال على التحكّم بها أكثر فأكثر، قطاع الثقافة والإبداع وقطاع التربية والتعليم. والمثال الأكبر على ذلك يتمثّل، على المستوى الفرنسي، في رجل الأعمال فنسان بولوريه الذي يسعى إلى التحكّم بالصحافة ودور النشر الكبرى من خلال امتلاك نسبة ستّين في المئة من الإصدارات السنويّة، وثمانين في المئة من الكتب المدرسيّة، فضلاً عن مسعاه إلى حيازة النسبة الأكبر من حركة التوزيع. تتألّف في وجه هذا المسعى اليوم جبهة من الكتّاب والمفكّرين، ومن دور النشر المستقلّة، بهدف وضع حدّ لهذا الطوفان الذي، إن وصل إلى أهدافه، سيتغيّر معه مشهد التأليف والنشر بأكمله، وسيترك بصمات عميقة في الحياة الثقافيّة.

في هذا السياق، صدرت حديثاً عن منشورات "غاليمار" في باريس رواية بعنوان "قصّة غول"، للكاتب الفرنسي إريك أورسينا، عضو الأكاديميّة الفرنسيّة. تتحدّث الرواية عن غول مفترس، يلتهم ولا يشبع، ويأتي من أزمنة سحيقة. "يكفي إلقاء نظرة على صناديق القمامة لنرى بقايا وجبته الغذائيّة المتواصلة: هنا، ذكرى محطّة إذاعيّة، كانت مستقلّة ذات يوم، وهناك، فتات دار نشر عريقة". لكن، من هو هذا الغول الذي يصفه أورسينا غير رجل الأعمال الملياردير فنسان بولوريه، وهو الذي يريد أن يسيطر على الإعلام والنشر في فرنسا؟ ينتقده الكاتب بشدّة من دون أن يسمّيه. يكشف كيف "يتسلّل إلى أعشاشٍ بناها الآخرون وكيف يريد أن يبتلع كلّ شيء"، ويفرض سلطته المُطلقة في مجالات الإعلام والنشر والتعليم. إنّه يجسّد "حالة مرَضيّة" تهدّد التنوّع الثقافي وحرّية الرأي، وكذلك الديمقراطية نفسها. بالنسبة إلى أورسينا، لا تأتي خطورة هذا الرجل من تدخّله في سياسة وسائل الإعلام ودور النشر وحسب، بل أيضاً من توظيف هذا التدخّل في خدمة الصحافي اليميني المتطرّف إريك زمور، أي أنّه يضع إمبراطوريّته وقوّته في خدمة لغة الحقد والكراهية.

في حوار أجرته صحيفة "لوموند" مع إريك أورسينا، وعن سؤال حول عدم إمكانيته بعد اليوم من إصدار كتبه في الدور التي يمتلكها بولوريه، قال: "حيث يكون بولوريه يضؤل حيّز الحرية ويحلّ محلّها الابتذال والوقاحة". لذلك، فإنّ أورسينا لن ينشر في دور النشر التي بات يسيطر عليها الملياردير، حتى لا يجد نفسه "خاضعاً للرقابة وللضغوط المختلفة". ولن يبقى "تحت قيادة هذا الغول" وفي ظلّ مؤسّساته التي ينظر إليها بصفتها عدوّاً له وللمجتمع. وإذا بقي فيها فهي ستستغلّ اسمه ووجوده لتوحي للجميع بأنها تتمتّع بحيّز من حرّية التعبير. وأورسينا ليس الكاتب الوحيد الذي رفض الانصياع لمشيئة هذا المتجبِّر، بل ثمّة كتّاب اقتفوا أثره، ومنهم من سبقه إلى الخروج من السفينة التي قَرصَنها المال.

بولوريه ابن اللحظة الراهنة والزمن الراهن، وهذا الزمن يختصره الكاتب الفرنسي باسكال كينيار في كتابه "ظلال تائهة" الحائز على جائزة "غونكور": "إنّ الشيء الوحيد الذي يُقرأ في معرض الكتاب في فرانكفورت (أحد أكبر معارض الكتب في العالم) هو دفتر الشيكات". الأدب الرائج اليوم والذي يسجّل أرقام مبيعات عالية هو أدب الإلهاء والتسلية. هذا النوع من الأدب لا تتطلّب قراءته جهداً ولا ثقافة. وما يحدّد نجاحه وشهرته هو، في الغالب، قيمته الشرائيّة وليس الاعتبارات الأدبيّة، الجماليّة والفنّية، الأمر الذي يساهم في تكريس الرداءة وانتصار الابتذال.

يكتب إريك أورسينا عن "الغول" الفرنسي، وكم من غول يحكم قبضته على العالم، وحوله مَن يسجد ويُسَبِّح؟ لكن، إذا كانت هذه هي الحال في إحدى الدول الديمقراطية الكبرى، فكيف يكون عليه الوضع إذاً في دول العالم الثالث، وخصوصاً في تلك الدول/ المَزارع التي "تكثُر فيها المذاهب ويقلُّ فيها الدين"؟


MISS 3