د. نبيل خليفه

رفيق الحريري القائد التاريخي في ذكرى استشهاده: تجاوز الخطوط الحمر لكلٍّ من أميركا وإسرائيل وسوريا!

16 شباط 2023

02 : 00

يوم الثلاثاء في الرابع عشر من شباط الحالي كانت الذكرى الثامنة عشرة لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري في بيروت، في الرابع عشر من شهر شباط عام (2005)، وككل عام يشارك سعد الحريري في احياء ذكرى استشهاد والده بتلاوة الفاتحة عن روحه في ساحة الشهداء في قلب بيروت، ويعود بعد ذلك إلى مقرّ اقامته الحالي في دولة الامارات العربية المتحدة. هذه المأساة الكبرى في حياتنا الوطنية تطرح على الضمائر سؤالين مهمّين:

الأوّل: ألم يكن هناك، في محيط رفيق الحريري، من يتوقّع وجود مؤامرة لاغتياله وينبهه اليها؟

والجواب: نعم يوجد، وبكل تواضع، وإنّما بشهادة للتاريخ أقول لقد كنت في عداد الخائفين على الحريري. وتأكيداً على ذلك وجّهت له مع صديقنا المشترك الأب أنطوان خليفه وكنت مستشاره في رئاسة جامعة الكسليك، الذي كان يلتقيه دائماً، رسالة تحذير وتنبيه من أنّه مهدّد وعليه أن يتخذ الحيطة والحذر. وكان جوابه كما أبلغني الأب خليفه أنه يشكر اهتمامي بأمنه الشخصي وأنه تلقى هذه الضمانة من أرفع مرجعين: الرئيس الأميركي جورج بوش والرئيس الفرنسي جاك شيراك!

السؤال الثاني: لماذا كنت أخشى على حياة الرئيس الحريري؟ وما هي الأسباب العقائدية الجيو- سياسية التي تجعله عرضة للاغتيال على يد قوى ودول وجماعات متضررة من نهجه السياسي، ليس على الخريطة اللبنانية فقط، بل على خريطة المنطقة كلها؟

الخطوط الحمر

لقد وضع كل من اسرائيل وسوريا خطوطاً حمراء على لبنان: كياناً جغرافياً ودولة باعتبار أنّ قيام لبنان الكيان هو في الوقت عينه نسف لعقيدتين: اسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى، وهذا الموقف للثنائي المحيط بلبنان لا يزال يتحكّم بسياسة كل من اسرائيل وسوريا تجاه لبنان حتى في الزمن الحاضر. ولقد كان رفيق الحريري من الوعي والجرأة في تحدي هذه الخطوط الحمر علانية وعلى رؤوس الاشهاد، بحيث ردّ على التحدّي بتحدٍ يعكس آمال وتطلعات ونفسية شعب لبنان بوقوفه صراحة ضد الاحتلالين!

جاء هذا الرد باعلان الرئيس الحريري ايمانه بالكيانية اللبنانية النهائية (وليس المرحلية) وبوقف العد الديمغرافي كمؤشرٍ للفرقة بين اللبنانيين: مسلمين ومسيحيين وهو الموقف التاريخي الذي قلنا عنه إنّ رياض الصلح صالح السنّة مع الكيان ولكن رفيق الحريري التزم وألزم السنّة بالاعتراف بهذا الكيان. ولعل أفضل تعبير عن هذا التحوّل تمثل في صدور وثيقة الوفاق الوطني (اتفاق الطائف) وفيها تأكيد على خمسة أمور أساسية: سيادة لبنان واستقلاله السياسي، انسحاب القوات الأجنبية منه، حلّ جميع المليشيات ونزع سلاحها، بسط سيطرة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية، واحترام قواعد الدستور اللبناني.

لقد جاء الرأي العام الدولي ليشرعن اتفاق الطائف عبر القرار 1559 وواضح أنّ المتضررين من ذلك وفي مقدمهم اسرائيل وسوريا سيعملان على ضرب القوى التي ساهمت في اصدار هذا القرار وفي مقدمها الرئيس رفيق الحريري، حتى أنّ بعض الشخصيات الفكرية اللبنانية التي ساهمت في صياغة هذا القرار لا تجرؤ حتى الآن على المجيء إلى لبنان خوفاً على حياتها. ذلك أنّ القرار 1559 هو أهم قرار يصدر من مجلس الأمن بخصوص القضية اللبنانية.

لم يتوقف تحدي الحريري عند القوى الأقليمية بل تعداها إلى القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. فلقد تبنت واشنطن عبر وزير خارجيتها اليهودي الأصل، نظام الخطوط الحمر لهنري كيسنجر. وهو نظام يقوم على اتفاقية تحدد لكل من سوريا واسرائيل مجال التحرك داخل الأراضي اللبنانية. وتشمل اتفاقية الخطوط الحمر ثلاثة أمور:

• لن تتجاوز القوات السورية خطاً أبعد من نهر الزهراني وبلدة كفرمشكي التي تبعد 40 كيلومتراً عن الحدود الاسرائيلية.

• تمنح سوريا سلاح الجو الاسرائيلي حرية الحركة في الأجواء اللبنانية ولا تُدخل إلى لبنان صواريخ أرض- جو.

• تمتنع سوريا عن توجيه ضربات جوية إلى أهداف أرضية مسيحية.

• لقد أكد مساعد كيسنجر جوزف سيسكو انه تمّ التوصل في العام 1976 إلى تفاهم مع سوريا واسرائيل حول لبنان وهو ما عرف تاريخياً بالخط الأحمر على بعد أربعين كيلومتراً من الحدود الاسرائيلية.

مشروع رفيق الحريري

يؤكد دارسو تاريخ لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين أنّ القوى الثلاث التي كانت تتبادل المصالح في السيطرة على لبنان وهي اسرائيل وسوريا و»حزب الله» الذراع الايرانية في لبنان، كانت تنظر إلى رفيق الحريري كمجرّد رجل ناجح في أعماله ولديه ثروة. وكان يغدق منها على المسؤولين، ولم يكن لديهم تقدير لمدى أهمية وخطورة المشروع الذي يحمله رفيق الحريري في عقله وقلبه بالنسبة لوطنه لبنان وهو ما عرف بظاهرة رفيق الحريري.

رفيق الحريري رجل يمتلك ثقافة منفتحة تعمل لتطوير عالم المعرفة والثقافة والانفتاح والحداثة. فهو منفتح على الغرب من دون التخلي عن هويته العربية. إنّ شخصيّته تمثّل شخصية الشريك المسلم المثالي الذي تحتاج لمثله التجربة اللبنانية. إنه مشروع يتناقض مع المشروع السوري – الاسرائيلي في لبنان كما يتناقض مع رؤية «حزب الله» لمفهوم الدولة في لبنان. فمشروع الحريري يشكّل خطراً على المشروع الأصولي الاسلامي بترجمته السنيّة والشيعيّة على حدٍ سواء.

ثلاثة مؤشرات أساسية أعطت لمشروع رفيق الحريري مصداقية سياسية حاسمة: نمو شعبيته من خلال الانتخابات وعلاقاته الدولية الفاعلة وعلاقاته المميزة مع البطريركية المارونية. وهذه العوامل الثلاثة تشكّل قوّة سياسية غير عادية على صعيد الوضع اللبناني الأمر الذي كان يعني لدى المتحكّمين بالوضع اللبناني أنه من الصعب احتواء مشروع الحريري والحل الأفضل بالنسبة لهم هو إلغاء شخصية الحريري بالذات!

في سياق نظام الخطوط الحمر لكيسنجر حول لبنان، لم يكن الهدف تقاسم النفوذ العسكري الاسرائيلي – السوري على الخريطة اللبنانية فقط بل هناك أمر اضافي مهم له وهو اعتبار لبنان دولة إضافية في المنطقة وجعلها مقراً لتوطين اللاجئنين الفلسطينيين فيها.

موقف الرئيس الحريري كان واضحاً وحاسماً بالنسبة لتركيبة لبنان الديمغرافية. فهو أول زعيم سني تجرأ أن يقول علانيّة وباصرار: لبنان تحكمه الحياة المشتركة الاسلامية – المسيحية وليس عدد المواطنين من هذه الديانة أو تلك ومن ثمة استعمل تعبيره الشهير «وقّفنا العدّ».

لقد تخطّى رفيق الحريري، بل تجاوز وأسقط الخطوط الحمر الموضوعة فوق لبنان: الانسان والكيان والدولة. وشكّل نقطة فاصلة في تاريخ لبنان بل في تاريخ الايديولوجيا العربية السنيّة. أكثر من ذلك، كان موقفه الفكري – السياسي لبنة أساسية في بناء النهضة العربية المعاصرة. لقد كان مصير لبنان موضوعاً على المحك ازاء دولتين وإزاء أقليتين، فعمل الحريري على قاعدة تحديث الاسلام بفضل الرؤية الطولانية للتاريخ وبالتالي بناء دولة لبنانية وعالم عربي تحكمه الثقافة والتقدم. بهذا المعنى كان رفيق الحريري بالفعل قيادة تاريخيّة!

(*) باحث في الفكر الجيوسياسي


MISS 3