جاد حداد

A Hidden Life...قصّة قدّيس إستثنائي!

13 شباط 2020

11 : 26

يُعتبر فيلم A Hidden Life (حياة خفية) للمخرج تيرينس ماليك من أكثر الأفلام المنتظرة هذه السنة في مهرجان "كان". يطرح العمل سيرة المعارض النمساوي النزيه فرانز جاغرستاتر خلال الحرب العالمية الثانية. فاز ماليك بجائزة أفضل مخرج في مهرجان "كان" في العام 1979 عن الفيلم الشهير Days of Heaven (أيام الجنة). وبعد إنتاجات متقطعة، منها The Thin Red Line (الخط الأحمر الرفيع)، استُقبِل في "كان" مجدداً في العام 2011 بحفاوة وعرض حينها الفيلم الماورائي القوي The Tree of Life (شجرة الحياة) الذي فاز بالسعفة الذهبية في تلك السنة.

منذ صدور The Tree of Life، كثّف ماليك إيقاع أعماله، فبدأ يصدر فيلماً واحداً كل سنة تقريباً. في ما يخص المواضيع المطروحة، تابع التطرق إلى المسائل الماورائية والرسائل المسيحية. سيعتبر الكثيرون قصة A Hidden Life مؤثرة جداً. يقدّم ماليك شخصية جاغرستاتر على شكل قديس مثالي من القرن العشرين. على أرض الواقع، عمدت الكنيسة الكاثوليكية في العام 2007 إلى تطويبه تمهيداً لإعلان قداسته.

ما الذي يمكن ألا يعجبنا في هذا العمل؟ يحمل A Hidden Life جواً روحياً واضحاً، ويطرح قصة تاريخية عن رجل يتمتع بأعلى درجات الأخلاق الحميدة. من المتوقع أن تصبح قصته جزءاً ثابتاً من نقاشات الكنيسة والمدارس والندوات خلال السنوات المقبلة. عند إجراء بحث صغير عن شخصية جاغرستاتر التاريخية، نكتشف أنه كان رجلاً مثقفاً وكثير التجول وصاحب خبرة واسعة، ويبدو أكثر تعقيداً بكثير من شخصية الفلاح التقي وزوجته التي تشبهه. لكن يطرح فيلم ماليك في نهاية المطاف رؤيته الخيالية عن هذه الشخصية. يقيم المخرج مقارنة بين الخير والشر في عهد النازية، فيبدأ بعرض مونتاج لصور من فيلم Triumph of the Will (انتصار الإرادة).صُوّر الفيلم بتقنية الشاشة العريضة، ويستعمل مؤثرات فخمة لطالما اشتهر بها ماليك في أعماله.



تقع اللقطة الأولى في وادي جبال الألب النمساوية، حيث يعيش "فرانز" (أوغست ديل) وزوجته "فاني" (فاليري باشنر) مع أولادهما الثلاثة، فتعكس المناظر الطبيعية الخضراء كثافة الحقول لدرجة أن تبدو الصورة شبيهة بمؤثرات التقنية ثلاثية الأبعاد. يعطي ماليك طابعاً رومانسياً حالماً للحب بين الزوجين ولحياتهما العائلية بفضل موسيقى تصاعدية وسيل من الصور المؤثرة. هما يقيمان في قرية زراعية هادئة لم يتغير فيها النظام الاجتماعي أو الزراعي منذ قرون. لا تنتشر أخبار العالم على نطاق واسع في هذا المكان، لكن تتصاعد في العالم الخارجي حرب حقيقية ويتم تجنيد الرجال للمشاركة في القتال.يؤدي "فرانز" خدمته العسكرية ثم يعود إلى دياره بعد إعفائه من مهامه. لم يتغير شيء في القرية، إلا انتشار الزخم النازي في كل مكان. وبناءً على تجربته العسكرية الأخيرة، يخالف "فرانز" آراء جيرانه، فهو الوحيد الذي يعتبر الحرب خاطئة. لذا يرفض إلقاء "تحية هتلر" الشهيرة أو المشاركة في تجمّع نازي للمحاربين القدامى، ولا يقبل أي مساعدة نقدية لعائلته. يعبّر رئيس بلدية القرية الثَمِل وآخرون عن معاداتهم للمهاجرين، لكن لا أحد يذكر اليهود أو الإبادة مباشرةً. كما أن تفاصيل الأفكار التي تلقي بثقلها على ضمير "فرانز" تبقى مبهمة.

كانت مقاومة النازيين حينها أشبه باقتراف خطيئة كبرى بنظر سكان القرية الأتقياء. يعترف "فرانز" بشكوكه لكاهن الرعية. وحين يدرك هذا الأخير أن مستوى التشكيك الأخلاقي لديه يفوق صلاحيته، يُحيله إلى الأسقف الذي يوصيه بالرضوخ للكنيسة، فيقول له: "لديك واجب تجاه أرض آبائك".

في العام 1943، يُستدعى "فرانز" مجدداً لأداء الخدمة العسكرية، رغم قرار إعفائه السابق. في هذه المرحلة، بدأ فصل جديد من مصيره المحتوم لأنه كان يرفض أن يقسم يمين الولاء لهتلر، مع أنه يعرف عواقب هذا القرار. كان جميع خصومه من الخارج. هو لم يشكك يوماً بدعوته الشخصية، بل بقي ضميره مرتاحاً لأنه رفض أي عرض يسمح بتخفيف التُهَم الموجّهة ضده أو إسقاطها.يقدم الممثل الأساسي، أوغست ديل، بملامحه المرسومة وخدّيه الأجوفَين، مشاهد المعاناة ببراعة فائقة، ويكون "فرانز" محكوماً بالمعاناة بصمت طوال الساعة الأخيرة من الفيلم. يتحدى سجين شبه مجنون "فرانز" بإنكار وجود الله، لكنه لا يصغي إليه، بل يردد المزمور الثالث والعشرين عبر تعليق صوتي منفصل. في مشهد مؤثر، يوقع "فرانز" عن طريق الخطأ مظلة أحد الأشخاص بعد دقائق على سماعه الحكم بإعدامه في محكمة نازية، فينحني لإرجاعها إلى مكانها بيديه المكبّلتين. بنظر ماليك، كان "فرانز" رجلاً صالحاً لهذه الدرجة!


MISS 3