توفيق شمبور

الجزء الثالث من سلسلة المسؤوليات (مسؤولية مصرف لبنان: القسم الثاني)

هندسة التدمير النقدي: إستقطاب ملتبس للودائع الدولارية ثم تبديدها بشكل ممنهج وغير مسؤول

20 شباط 2023

02 : 00

كيف خلق رياض سلامة ما يُسمّى بالدولار اللبناني (اللولار)؟

*الحاكمان ادمون نعيم وميشال الخوري رفضا إستعمال أموال المودعين لمعالجة إنهيارات سوق القطع

*تمويل الدولة من مصرف لبنان محكوم بتسهيلات ظرفية وضرورات إستثنائية الخطورة وللضرورة القصوى فقط

*هندسات مالية سخية لمعالجة تعثرات بنوك لبنانية خارج لبنان... هندسات بنيت على أسس يخالف عليها القانون

*حدّد مصرف لبنان بطريقة منتقاة لمن تُمنح القروض وفي ذلك مخالفة صريحة للدستور وقانون النقد والتسليف

*مدّ الطبقة السياسية بما يلزم من مال إسترضاء لها وبدافع طموحات رئاسية كانت عند حاكم مصرف لبنان

*تعميم نظام الدولرة أتى مخالفاً قانون النقد والتسليف القاضي بخلق نظام نقدي أساسه الليرة اللبنانية فقط

*خلق نظام سعر صرف ثابت زائف وممارسة دعم على مدى 3 عقود شمل الكهرباء والمحروقات وغيرها

*لطالما حذّر صندوق النقد الدولي مصارف لبنان من خطورة الانكشاف على مخاطر الديون السيادية

*خلق مقاصة بالعملات الاجنبية ونقود مصرفية مشتقة أدى الى ما يسمى بالدولار المحلي او اللولار 



يرى Paul Volcker حاكم الـ FED (المصرف المركزي الاميركي) أن «القوة الحقيقية والفريدة للمصرف المركزي هي في القدرة على خلق النقد، لكن في النهاية، القدرة على الخلق هي ايضاً قدرة على التدمير».

ويستطرد قائلاً: «إن تدمير النقد يحصل عندما تتوقف المصارف المركزية عن التصرف كمصرف مركزي، وتغيب عن أذهان المعنيين فيها الوظيفة الأساسية للمصرف المركزي».

وأسطع دليل على الانحراف، تجاوز القيمين على المصرف المركزي النصوص القانونية المنظمة لعملياته، او تفسير هذه النصوص على نحو مشوه وحتى مناقض للغاية التي وضعت من اجلها بهدف تبرير الانحراف.

هذا ما حصل للاسف في لبنان ويمكن تلمّسه بوضوح من خلال الاهداف التي تم التركيز عليها منذ بداية التسعينات، والمتمثلة بسعي محموم لاستقطاب غير مسبوق من قبل مصرف لبنان للدولارات على الاخص من اموال المودعين، وبغض النظر ما اذا كانت وسائل الاستقطاب تتماهى مع القانون ام لا، وذلك لتبديدها لاحقاً، من دون وجه حق، بعمليات دعم ثبات سعر صرف زائف وأسعار سلع واحتياجات استهلاكية وتأمين نفقات جارية لقطاع عام متعثر وغارق بالفساد، ما يشكل اساءة استعمال للسلطة واساءة امانة وتبديد واع وممنهج لودائع المودعين الدولارية المتحصلة لغايات غير جائزة détournement de fonds. وقد سهل الامور غياب المساءلة وثقافتها وعدم وجود مرجعية مختصة بتقييم سياسات مصرف لبنان والاعلان عن الانحرافات فيها عند حصولها، وبوقت مبكر منعاً لتفاقمها، كما هو الامر في ما خص مراقبة سياسات وأداء ادارات المصارف المركزية في عدد من الدول منها فرنسا وسويسرا واسرائيل وايضاً... الاتحاد الاوروبي وغيرها.

في الإستقطاب الملتبس والمحموم وغير المسبوق للودائع الدولارية

تقارير صندوق النقد الدولي أشارت مرات عدة الى تنامي تمركز توظيفات المصارف بالدولار في اصدارات الخزينة ومصرف لبنان. ففي منتصف الثمانينات الماضية كان متوسط هذه النسبة 17% ارتفع الى 35% منتصف التسعينات ليبلغ اقصاه 68% في العقد الاخير. ما دفع ادارة الصندوق الى التحذير من خطورة انكشاف المصارف على الديون السيادية. امر استجابت له الاخيرة بشكل مشوه اذ عمدت الى تخفيض اكتتاباتها باصدارات سندات الخزينة واستبدالها بايداعات وتوظيفات واكتتابات بشهادات ايداع اضافية ومجزية لدى مصرف لبنان. ما حفزها لهذا الامر قرارات للاخير خفض فيها اوزان مخاطر اصداراته بشكل كبير بالنسبة لمخاطر اليوروبوندز. ايضاً كان هناك تمييز بنسب الخسائر المتوقعة، ما دفع المصارف الى التركيز على التوظيف لدى مصرف لبنان على حساب توظيفات أخرى بما فيها القروض المتوسطة والطويلة الاجل للقطاع الخاص.

النتيجة كانت تضاعف حجم اموال المصارف لدى مصرف لبنان حوالى الـ 20 مرة ما بين 1997 و 2017 وتنوعت هذه الاموال ما بين (1) «توظيفات إلزامية»، بنسبة 14% من قيمة الودائع الدولارية لدى المصارف و(2) «إحتياطات إختيارية» باكتتابات بشهادات ايداع مصدرة من قبل المصرف و(3) مشاركات بـ»هندسات مالية» متنوعة اطلقها مصرف لبنان بالدولار.

«الإحتياطات الإلزامية» و»التوظيفات الإلزامية» الدولارية

النص الاصلي للفقرة (د) من المادة 76 من قانون النقد والتسليف يتحدث عن امكانية مصرف لبنان مطالبة المصارف بتكوين «احتياطات الزامية» لديه تحتسب نسبة للودائع والتزامات اخرى عليها، بـ»الليرة اللبنانية» فقط. لكن القانون 67/28 ألغى قيد العملة الوطنية فبات بالامكان مطالبة مصرف لبنان المصارف بتكوين «احتياطات الزامية» لديه بجميع العملات.

المنحى الذي اختطّه المشرع في التعديل الاخير، استبقى تكوين «الاحتياطات الالزامية» بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان، كما هو الامر بالنسبة «للاحتياطات الالزامية» بالليرة اللبنانية، على خلاف ما تعتمده دول اخرى، كسويسرا مثلاً، حيث تسمح لمصارفها بتكوين «الاحتياطات الالزامية» لمصارفها بالعملات الاجنبية لدى المصارف المراسلة، ما يمكّن المصارف من تقاضي عائد على هذه الاحتياطات، بعكس الامر في لبنان حيث لا تتقاضى المصارف اية فوائد على «احتياطاتها الالزامية» ان بالليرة او بأية عملة اجنبية. وهذا توجه عام معتمد من قبل كافة الدول.

لتخطّي مصرف لبنان العائق السابق في استقطاب الودائع الدولارية من المصارف، عمد الى مطالبة الاخيرة بان تكون لديه «توظيفات الزامية» تتقاضى عليها فوائد مجزية على ان يتم اعفاؤها من موجب التكوين بمقدار ما تمنحه من قروض لافراد او لمؤسسات ينتقيهم مصرف لبنان في مخالفة صريحة للدستور وايضاً للمادة 79 نقد وتسليف التي تمنحه حق تحديد حجم التسليف لاغراض معينة لا تحديد الاشخاص المستفيدين منه.

إنحراف مصرف لبنان المحكي عنه يمكن تلمسه بوضوح من مراجعة نص التعميم الاساسي رقم 86 الذي عمم على المصارف القرار الاساسي رقم 7926 تحت عنوان «توظيفات المصارف الالزامية». فالاخير يستند في حيثياته الى الفقرة (و) من المادة 76 ن ت التي تتحدث بشكل صريح عن «ايداعات حرة» من المصارف يمكن لمصرف لبنان ان يقبلها، وليس عن «توظيفات الزامية» يمكن لمصرف لبنان ان يفرضها على المصارف سنداً للفقرة (د) لا (و) من المادة 76.

أيضاً تحيل المادة 77، التي تم الاستناد اليها في حيثيات القرار 7926 الخاص بتكوين «التوظيفات الالزامية» الى جزاءات على التخلف عن المطلوب تفرض اساساً وحصراً على التخلف عن تكوين «الاحتياطات الالزامية».

وكان واضحاً سبب عدم اعتراض المصارف على الانحراف المحكي عنه فهي تقاضت فوائد مجزية على ما يسمى «التوظيفات الالزامية» التي كونتها وكانت ستحرم من هذه الفوائد لو تمّ تكوينها كـ»احتياطي الزامي»على اساس الفقرة(د) لا (و) من المادة 76.

الوضع الملتبس «للتوظيفات الالزامية» خفي على كثيرين، ومنهم نخبة متنورة من المحامين اعدت دراسة اشارت فيها الى كتابي نقيب المحامين وجمعية المصارف تاريخ 1 نيسان 2021 الى حاكم مصرف لبنان حيث تبنت ما ورد فيهما من خلط بين «التوظيفات الالزامية» و»الاحتياطيات الالزامية» ومن نتيجة بعدم جواز استعمال الاولى في عمليات الدعم وتمويل الحكومة.

جدير بالذكر ان حاكم مصرف لبنان استجاب سريعاً للطلب فأرسل في 9 نيسان 2021 كتاباً الى وزير المال أقر فيه ضمناً بالخلط المحكي عنه، من خلال الكلام عن «مسؤوليات قانونية وقضائية تهدد استمرار المصرف بتلبية طلبات الحكومة (التمويلية)»، اقراراً سريعاً ما عدل عنه بكتابه تاريخ 11 ايار 2022 الى جمعية المصارف حيث ذكر فيه «ان اموال المصارف التي يتم توظيفها لديه تصبح من ضمن موجوداته (بمعنى انه يحق له التصرف بها كيفما شاء)... وردّها يكون بتوازي الصيغ والاصول و... بالليرة اللبنانية من دون تحديد لأي سعر صرف من الاسعار المتعامل بها؟

تعاميم وتدابير صدرت بهدف اغراق مصرف لبنان بودائع المصارف الدولارية

الإنحراف القانوني المحكي عنه ليس بالحقيقة الا حلقة من سلسلة تعاميم صدرت وهدفت لتدعيم نظام الدولرة في البلاد خلافاً لرسالة قانون النقد والتسليف في ارساء نظام نقدي اساسه الليرة اللبنانية. وذلك من خلال استقطاب محموم من قبل مصرف لبنان لودائع المصارف الدولارية بهدف قيادة هذا النظام، اهمها التالية:

(1)السماح للمصارف أن تفتح لدى مصرف لبنان حسابات بالعملات الأجنبية لزوم عمليات المقاصة بهذه العملات. علماً بان المادة 80 ن ت لا تتحدث عن اي تكليف لمصرف لبنان بشأن المقاصة بغير الليرة اللبنانية.

والمقاصة الاخيرة منتقدة لعدم تجهز لبنان بقانون او نظام يرعى خلق الجهاز المصرفي للودائع وبالتالي للنقود المصرفية المشتقة من ودائع بالعملات الاجنبية، لضمان عدم حصول انحرافات من نوع التضخم المتفلت لهذه الودائع والنقود وغير ذلك من امور من اهمها امكانية تقاص شيكات بالدولار، بشيكات هي في الحقيقة من نوع شيكات الدولار المحلي او اللولار.

(2) وضع حدود قصوى للمصرف في عمليات التسليف والتعامل مع الخارج كما توظيف امواله لدى مصرف مراسل واحد او لدى مجمل المصارف المراسلة. وايضاً الزامه الابقاء على نسبة سيولة الزامية جاهزة لدى مصرف لبنان قدرها 10% من الودائع والقروض التي يحصل عليها.

(3) تشجيع المصارف على توظيف ودائعها الدولارية في شهادات إيداع مصدرة من مصرف لبنان لمُدد طويلة وبفوائد مجزية بلغ مقدارها احياناً الـ 9% اي اعلى بنسبة تبلغ حوالى 6.5% من معدل Libor وايضاً من معدلات سندات الخزينة الأميركية لمدة 10 سنوات. علماً ان بعض الدول كانت تعتمد في هذه المرحلة معدلات فائدة سالبة كألمانيا وسويسرا. وكان تعليق مصرف لبنان ان المعدلات المدفوعة منه تتماهى مع المعدلات المتعامل بها في المنطقة بالتحديد تركيا ومصر ومن دون تعليق على واقع ان معدلات لفوائد في التعامل بين المصارف هي عادة ادنى وان اللاعب الاساسي في تحديد معدل الفائدة في لبنان هو مصرف لبنان لعدم وجود سوق مالية ضاغطة في هذا المضمار.

(4) السماح للمصارف تحت وطأة ظروف سياسية بتسييل شهادات إيداع مصدرة من مصرف لبنان بالليرة وطويلة الاجل شرط ان تشتري من المتحصل شهادات إيداع بالدولار مصدرة عنه.

(5) إطلاق عمليات هندسات مالية مع المصارف بفوائد سخية ليس فقط بهدف تعزيز موجودات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية بل ايضاً بهدف معالجة ذيول تعثرات مصرفية خارج لبنان، وارتفع مقدار مجموع تكلفة هذه العمليات الى ما يقارب حجم الناتج المحلي الاخير للبلاد، في اشارة فاقعة الى تأسيسها على غبن معاقب عليه قانوناً. وقد لخص مضمونها بصراحته المعهودة عضو جمعية المصارف السيد تنال الصباح في 30 ايار 2022 في برنامج 20/ 30 اذ ذكر حرفياً التالي: «إن مصرف لبنان قال للمصارف: يللي بيجيب 100 مليون دولار من زبائنه بعطيه فوراً 35 مليون دولار، وكل سنة 5 أو 6 ملايين دولار!!!!» وقد اضاف في مقابلة تلفزيونية لاحقة حول ذات الموضوع «ان المصارف اكلت الضرب من مصرف لبنان عندما قرر الاخير رد ما تم توظيفه لديه من دولارات بالعملة الوطنية».

(6)والهندسات المالية لم تقتصر على المصارف بل كانت هناك على الدوام هندسات مع وزارة المالية من خلال اصدار سندات خزينة او سندات يوروبوندز يكتتب بها مصرف لبنان حصراً، منها ما يتعلق بالدين العام ومنها ما يتعلق بدعم موجودات المصرف بالعملات الاجنبية ولو على حساب تضخيم حجم الدين العام بهذه العملات على حساب خفضه بالليرة. وكانت الحجج التي تقدم علناً ان الدين العام بالدولار مفضل لان معدلات الفوائد التي تدفع عليه اقل من تلك التي تدفع على سندات الخزينة بالليرة، وهو ليس موضوع قلق لانه محمول بشكل اساسي من لبنانيين، ومن دون اي اشارة الى مخاطر مقابلة مثل توقف تدفق الدولارات من الخارج وامكانية التفرغ بسهولة وسريعاً عن اليوروبوندز الى الصناديق المضارِبة على إفلاس الدول كما حصل مؤخراًالترويج للنجاحات المحققة في تعزيز موجودات مصرف لبنان من العملات الاجنبية لمستويات عليا تاريخية حجب تشوهات لحقت (1) بالمصارف و(2) بمصرف لبنان و(3) بالاقتصاد.



سلامة وصفير... ماذ يخطر ببالهما بعد هذا كلّه؟


النتيجة بالنسبة للمصارف

تسبب الامر بحصول تحول في طبيعة عملها كمصدر لتمويل للاقتصاد من الاموال التي تجمعها من المدخرين، الى مصدر اساسي لتمويل القطاع العام وبالتحديد لمصرف لبنان. ما يدفع الى ادراجها من ضمن مجموعة مصارف الاعمال ويجعلها في وضع مخالف لعدد من النصوص القانونية والنظامية التي ترعى نشاطها كمصرف تجاري منها تجاوزها النسبة المحددة لاقراض عميل واحد. ايضاً ربطت انحرافات المصارف وضعها المالي بالوضع المالي لمصرف لبنان الذي هو مرتبط بالوضع المتردي والمتهالك للخزينة فكان تعسرها من اولى تداعيات التوقف عن سداد اليوروبوندز. وهذا التعسر ما كان ليحصل لو لم تستنزف المصارف سيولتها لدى مراسليها لتوظيفها لدى مصرف لبنان. وأول من استشعر خطورة الانحراف ادارات فروع المصارف الاجنبية فكان قرارها بمغادرة البلاد.

النتيجة بالنسبة لمصرف لبنان

تضخمت التزاماته بالعملات الأجنبية لصالح تعزيز وضع المصارف الى حد باتت تفوق أصول موجوداته بالعملات الأجنبية مضافاً اليها الذهب. وقد قدرت تقارير حكومية حجم «الفجوة» عند اكتشافها بحوالى 70 مليار دولار مرشحة للارتفاع باضطراد لحاجة مصرف لبنان المستمرة من الدولارات لدفع المستحق من التزاماته.

النتيجة بالنسبة للإقتصاد

كان هناك نجاح في المحافظة على استقرار سعر صرف زائف بتكلفة تضخمت مع الوقت فقاعتها مع تمويه لحساباتها بتوقف مصرف لبنان بعد اجتماعات باريس ولاكثر من عقد من الزمن عن نشر تقارير سنوية واخرى عن عملياته حسبما تقضي به المادة 117 نقد وتسليف، الى ان انفجرت هذه الفقاعة مسببة افدح الكوارث. جدير بالذكر ان ارتفاع حجم الزيادات المسجلة في ميزانيات مصرف لبنان والمصارف المحلية خلال العقد الاخير لم تكن تعكس اساساً سوى العمليات بين مصرف لبنان والمصارف من دون أيّ توسع مماثل في النشاط الاقتصادي الحقیقي.

التبديد الممنهج للودائع

الودائع التي تم استقطابها من قبل مصرف لبنان بشكل ملتبس تم تبديدها في غير الوجهة المخصصة لها سنداً للمادة 76 نقد وتسليف في المجالات التالية:

عمليات القطع

لقد عرض على حاكمين سابقين هما الدكتور ادمون نعيم والشيخ ميشال الخوري فكرة الاستعانة بأموال المودعين لمعالجة الانهيارات في سوق القطع التي حصلت اثناء ولايتيهما لكنهما احجما عن الامر مفضلين عدم مراكمة ازمة مصرفية على الازمة النقدية. وقد لجأ الاول الى التركيز على التشدد باستعمال «الاحتياطي الالزامي» بالليرة اللبنانية لتجفيف منابع شراء الدولار ما اثار حنق جمعية المصارف فخاصمت مصرف لبنان امام القضاء. اما الثاني فأعلن بشكل رسمي التوقف عن التدخل في سوق القطع عندما بات رصيد حساب صندوق تثبيته المنصوص عليه في المادة 75 من قانون النقد والتسليف لا يسمح بذلك.

عمليات الدعم

من الثابت ان اي مصرف مركزي لا يمكنه ان يقف مكتوف اليدين امام اي ازمة مالية ضاغطة تتعرض لها حكومته ولا يبادر الى مد يد المساعدة اليها «والقيام بكل ما يجب» تحت عنوان «سياسات غير تقليدية» حسب تصريح السيد Mario Draghi الذي شغل سابقاً منصبي حاكم المصرف المركزي الاوروبي ورئيس وزراء ايطاليا. وقد تم توضيح كلامه لاحقاً بان الامر لا يعني البتة مخالفة القانون. مصرف لبنان لم يلتزم للاسف بالمعيار المحكي عنه فقد اغدق في الانفاق على عمليات دعم شتى وطوال ثلاثة عقود. إبتداء من الكهرباء منذ بداية التسعينات الماضية، وصولاً الى سنوات الازمة حيث تنوعت عمليات الدعم ما بين سلع غذائية ومشتقات نفطية وادوية ومستلزمات طبية وغيرها استنفدت اكثر من 20 مليار دولار من اموال المودعين بدون اي سند قانوني، وذهبت في غالبيتها للمهربين والمحتكرين والتجار وقوى الامر الواقع على الارض ووسطاء سياسيين وماليين. يقول البروفسور Joseph Stiglitz حامل جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2001 بان الدعم هو للانتاج وانه عندما يكون للاستهلاك العام وليس لفئات محتاجة محددة نتيجته بالنهاية وفي احسن الاحوال صفر!!! هذا بالتحديد ما حصل في لبنان حيث كان الدعم بالحقيقة وبالدرجة الاولى دعماً للسطة السياسية القابضة على الامور.

التمويل السهل للدولة

سبق أن أوضحنا بشكل مسهب في مقال نشرته «نداء الوطن» في 28 شباط 2022 تحت عنوان «التمويل السهل للدولة من قِبل البنك المركزي... عامل استقرار أم انهيار؟ «كيف ان مصرف لبنان خالف في تمويله الدولة مسلمات اساسية مستقرة من ايام القائد الفرنسي Bonaparte عبرت عنها كلمته الشهيرة بـ»ان مهمة المصرف المركزي تأمين التسهيلات الظرفية والمحدودة للدولة وليس القروض». توجه تردد حرفياً في القانون السويسري وفي اتفاقية الاتحاد الاوروبي ثم في البروتوكول الاوروبي لنظام المصارف المركزية والمصرف المركزي الاوروبي. ولم يتوانَ اقتصادي شهير هو Maurice Allais حامل جائزة نوبل للاقتصاد للعام 1988 من التصريح بـ»ان تمرس اي مصرف مركزي بتمويل حكومته يفقده مبرر وجوده، والافضل في هذه الحالة اغلاق ابوابه وتحويل عملياته الى مديرية الاصدار في وزارة المالية».

في لبنان يذكر السيد جوزيف اوغورليان اول نائب اول لحاكم مصرف لبنان وهو الذي ترأس اللجنة التي اعدت مشروع قانون النقد والتسليف ان الحل الذي اعتمد وهو التمويل الاستثنائي للدولة كان لمنع المصارف من فرض معدلات فوائد مرتفعة على الحكومة في حال منع مصرف لبنان من تقديم التمويل للاخيرة. وقد تقرر ان يترك كامل التقدير لمصرف لبنان في موضوع اقراضه الدولة شرط ان يحصل الامر «فقط في حال الظروف الاستثنائية الخطيرة او في حالات الضرورة القصوى، وضمن شروط له مطلق التقدير بتحديدها، وبموجب عقد ينظم بين الحكومة ومصرف لبنان يعرض على المجلس النيابي للموافقة عليه».

آخر تمويل للحكومة تمت فيه مراعاة التوجهات السابقة حصل خلال ولاية الشيخ ميشال الخوري الثانية. ومن بعدها جرت الامور وكأن مصرف لبنان بات يعمل كمديرية اصدار لدى وزارة المالية على حد قول البروفسور Allais، وقد عزا البعض هذا المنحى الخطير بطموحات رئاسية لدى الحاكم سلامة محورها استرضاء الطبقة السياسية بمدها باستمرار بالمال الذي تعوزه.

خطورة انحراف مصرف لبنان في تمويله الدولة لم تتوقف عند مخالفته الفاقعة لاحكام قانون النقد والتسليف بل تعدت الى كون التمويل قد حصل بقدر مهم منه بالعملات الاجنبية ولنفقات عامة جارية، خلافاً للتصريحات التي تذكر للتمويه انه كان لاعادة الاعمار.


الانكار الملتبس: هل ردّ مصرف لبنان فعلاً الدولارات للمصارف؟


في مقابلة مع معد برنامج المدار في تلفزيون الشرق بتاريخ 10 شباط 2023 ذكر حاكم مصرف لبنان حرفياً التالي:

«1 - ان مصرف لبنان رد كل اموال المصارف بالدولار، ورد اضافة الى ذلك 30 مليار دولار ما بين2017 و2022. وان مصرفاً مركزياً يشتغل بعملته التي هي الليرة اللبنانية ولذا مد السيولة للمصارف بالليرة اللبنانية.

2 - اضافة الى ذلك ما زال يمد المصارف بالدولار الاميركي لزوم التعميمين 158 و161 ومن خلال صيرفة المصرف. والمصرف المركزي لم يتخلّ عن دوره بل قام بأهم دور يستطيع مصرف مركزي ان يقوم به، انه مد سيولة المصارف بعملة لا يصدرها اي بالدولار الاميركي».

كلام أثار صدمة لدى الكثيرين دفع بعضهم الى الدعوة الى مخاصمة المصارف قضائياً بتهمة الاختلاس الاحتيالي لاموال المودعين التي ردها مصرف لبنان اليهم وتتمنع عن تسليمها الى اصحابها. وما زاد الالتباس تصريح صدر بعد يومين للامين العام لجمعية المصارف السيد فادي خلف ذكر فيه كلاماً معاكساً «ان المصارف لديها ايداعات وسندات بقيمة 82 مليار دولار لدى مصرف لبنان، وهي ظاهرة للعيان بوضوح في ميزانية المصرف المركزي ويتوجب اعتراف الدولة ومن ثم مصرف لبنان بهذه الودائع».

تخبّط معيب، لا يقع المرء على مثيل له في اي من المؤلفات التي تؤرخ الازمات النقدية. بيد ان التدقيق بالامور بعين العارف بممارسات حكام المصارف المركزية من شأنه كشف الخبايا.

أفضل من عبر عن هذه الممارسات وأهمها، أي التصريح علناً بأمر وقصد ما يخالفه ضمناً، حاكم الـ FED السابق السيد Alain Greenspan ففي ختام جلسة مع احدى لجان الكونغرس الاميركي سأل الحاضرين عما اذا كان كلامه واضحاً لهم، فكان الجواب بالاجماع نعم، ما استدعى تعليقه التالي: «تبا، يبدو أنه خيل لكم أنكم فهمتم ما اعتقدتم أنني قلته ولكني لست متأكداً من أنك ادركتم أن ما سمعتموه ليس ما قصدته».

ضمن هكذا تصور يقتضي فهم المضمون الحقيقي لكلام الحاكم لتلفزيون الشرق. فإعادة قراءة الفقرة الاولى منه كاملة وبتأن تظهر ان رد مصرف لبنان الودائع الدولارية التي تلقاها هو بالليرة اللبنانية وهذا ما يظهر بوضوح في نهاية الفقرة بالقول بـ»ان مصرف لبنان يشتغل بعملته التي هي الليرة اللبنانية». ويتماشى هذا التوضيح مع كتاب الحاكم تاريخ 11 ايار 2022 الى جمعية المصارف حيث ذكر فيه «ان توظيفات المصارف لديه، وان بشكل الزامي، بالامكان ردها استرشاداً بمبدأ توازي الصيغ والاصول... وبالليرة اللبنانية وفقاً لسعر صرفها مقابل الدولار الاميركي (من دون تحديد لأي سعر من اسعار الصرف الرائجة في التعامل).

وكان حاكم مصرف لبنان قد سبق له التصريح في البرنامج التلفزيوني «صار الوقت» في 10 كانون الثاني 2020 ولأول مرة بان المصارف بامكانها رد الودائع الدولارية الى اصحابها بالليرة اللبنانية وايضاً من دون ذكر على اي سعر صرف، مستنداً الى المادة 7 من قانون النقد والتسليف التي تتحدث عن قوة ابرائية غير محدودة للاوراق النقدية اللبنانية على اراضي الجمهورية اللبنانية، تحت طائلة تطبيق العقوبات المنصوص عليها في المادة 319 عقوبات على من يرفض الايفاء بها.

تفسير الحاكم للمادة 7 خاطئ للاسف ويناقض احكاماً صدرت عن القضاء اللبناني وقضت بضرورة رد الوديعة بعملة الايداع الى اصحابها. فالالزام المنصوص عليه في هذه المادة 7 يسري فقط على الالتزامات بالليرة اللبنانية fiduciaire وليس على ايفاء الالتزامات المحررة بالعملة الاجنبية scripturale، لان الامر يتطلب في الحالة الاخيرة اضافة فقرة على المادة 7 تفيد عن سعر الصرف الذي يتعين اعتماده للعملة الاجنبية عند السداد بما يعادلها بالليرة اللبنانية، وفي غياب هذه الاضافة ووجود اسعار صرف متعددة لا يمكن اعمال المادة الاخيرة 319 لان قانون العقوبات هو قانون خاص ولا يجوز التوسع بتفسيره وتطبيقه بشكل عام الا عند اكتمال جميع عناصر المخالفة في مادة العقاب.

لقد أراكم مصرف لبنان للاسف وبشكل واع تفسيرات مشوهة ومخالفات واضحة لمواد اساسية من قانون النقد والتسليف تحكم عملياته ما يعتبر بنظر الحاكم Volker منحى لا يخدم الحفاظ على النقد بل العكس يفضي الى التدمير الذاتي للنقد، لا بل حتى للمجتمع من خلال تسببه بتدمير مصرفي بسبب الترابط الذي تم عقده بين مالية المصارف ومصرف لبنان والخزينة.


(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والبنوك المركزية 


MISS 3