د. نمر فريحة

صادر عن "دار سائر المشرق" 2023

قراءة لرواية عمر سعيد من بيت الطين إلى عنايا...

22 شباط 2023

02 : 00

يصف الكاتب حياة القرية كطفل، وما كان يفعله بالتفاصيل الدقيقة حتى لم يفته تذكر "رائحة القطران التي تخلفها قطعان الماشية" (ص20). وكيف بدأت معالم الضيعة الاجتماعية تتغير وتتقلص جراء تأثير القضية الفلسطينية على الناس، وتعريضهم لأفكار غريبة عليهم كالإمبريالية والاستعمار والمؤامرات والاستراتيجيات، وغيرها، وكلها ترتبط بأدبيات القضية. وكنتيجة لهذا التغير الدرامي والسريع في قناعات جيله، فقد "تخلينا جميعنا عن حسابات البواحير، ومواعيد الثلوج والأمطار، وانشغلنا بتنظيف البنادق، وإحصاء عدد الطلقات" (ص13). ولهذا السبب تحولت حصص الدراسة إلى حصص تعبئة أيديولوجية. انتقال جذري في الاهتمام والتركيز عاشه معظم أفراد جيل الحرب. لقد كانت قضية فلسطين عاملاً محركاً في حياته كمراهق، وأثرت على مسيرته كلها. ويتساءل لاحقاً عن دور القضية الفلسطينية في حياة أبناء المنطقة بمقاربة فيها كثير من الخواء السياسي والاجتماعي لمجتمع بات محدوداً في نشاطه وإنتاجه وتطوره، قائلاً: "ترى لو لم تكن فلسطين محتلة، كيف كنا سنعيش"؟(114). ربما هذه ناحية من شخصية الانسان الشرقي الذي يبحث عن قضية ليشعر أنه موجود، وأنه يعيش من أجلها.

ويعود الكاتب إلى فترة الحرب الأهلية التي تحضّر لها مع الفلسطينيين الموجودين في قريته (الصويري البقاعية)، ومن ثم شارك فيها في مطلع شبابه: "أذكر أني حملت السلاح، ووضعت عيني على زحلة وسيدتها، أريد اقتلاعهما من قلب الوطن" (ص7). وهذا وصف صادق لأن حرب زحلة كشفت نوايا طائفية لم تكن متوقعة، واتخذ القتال طابعاً دينياً أيضاً.

وفي وصفه لطريقة تنشئته "كنا صغاراً جداً، يوم كان علينا أن نكره كل من لا يشبهنا... كانت حزمة الكراهية أكبر من أن أحتمل شيلها فوق كاهلي طوال الوقت وعلى امتداد تلك الطريق" (ص15) . هذه هي التربية المنزلية قبيل الحرب الأهلية وفي أثنائها وبعدها. إن صراحة الكاتب لا تكشف سراً، بل تصف واقعاً يرفض الجميع من كل الفئات الاعتراف به، لكنهم يكثرون التكاذب حوله. وسبق أن وصف في سطرين فقط واقع حال الشبيبة، وكيف تنشأ كنسخة عن أهاليها: "فكما ورثت عن أبي تجعدات شعري... ورثت عنه بيئة ومجتمعاً يعتقدان أني جزء من ممتلكاتهما". (ص9). وبهذيــــن الجملتين يختصر تنشئة الأجيال في البيئات المحافظة حيث تتجسد عملية "إعادة الانتاج" بأبهى صورها. وهذا ما ساهم في بناء شخصيته كما أرادها مجتمعه آنذاك، بأن أقنعه بترك الزراعة والانضمام إلى المجموعات المسلحة لقتال "العدو" ابن وطنه. و"تكفلت البندقية بتحويلنا من رعاة ماشية إلى قتلة". (ص13). لكن قوله "يعتقدان أني جزء من ممتلكاتهما" يخبئ فكرة الانتفاض على هذا الواقع. فالمتمرد الواعي عادة هو من يبحث عن ذاته، عن "أناه" المميزة عن كل "أنا" أخرى. وهذا ما عاشه الكاتب: "كنت ابن بيئة لا تترك لي خياراً يمكنني أن أكون أنا". (ص 113). "كانت مقاييس من حولي تحيط بي كقضبان السجن، ولا أذكر أني عشت أبداً كـ أنا". (ص114). ففي المجتمعات التقليدية والمحافظة والرجعية، لا وجود للفرد، بل للجماعة، وتذوب "الأنا" في "النحن". وهذا الإطار المرسوم مسبقاً لمن يولد في هكذا مجتمعات أراد الكاتب تخطيه، والتملص منه ليستطيع أن يقف خارج دائرة الانتماء هذه، وينظر إلى شخصه الضائع في خضم المجموعة، ويكتشفه.

وحياته العائلية التي طبعت أفكاره وتخيلاته وقراراته، لم تكن سهلة وفرحة كما يُفترض، بل كانت قاسية وتتجاوز التوقعات. لقد كانت معاملة والده قاسية له ولإخوته لدرجة أن الوالد وضع فوهة الرشاش في رأسه مرة مهدداً بقتله. كما لا يخفي وجعه على رحيل أخيه الياس في كندا بعد تجربة زواج فاشلة حصلت في سن الخامسة عشرة، وعيش غربة نفسية مع محيطه، لكن اسمه كان وسيلة انفتاح على الآخرين. وعند حديثه عن الحب، نفاجأ بأنه لا يتناول الحالات الرومنسية، بل كبت المشاعر لأن الفتاة لو أحبت لعرضت نفسها لعقاب قاسٍ في مجتمعه المحافظ والمغلق. وصورة جميلة عن "حبه" بعد تجربة فاشلة في بداية مراهقته: "فقد كنت أحب كل جميلة، وأكتفي بأن أحب من طرف واحد، حتى صرت لا أشن غزواتي الجنسية إلا فوق الورق" (ص120). إن قدرة الكاتب على نقل أفكاره بأسلوب شيّق، وبطريقة مشوقة في أجزاء الرواية كلها تشد القارئ إلى متابعة ما يحدث.

وكلما وعى الكاتب واقعه المؤلم، كلما ازداد أرقاً وتساؤلاً إلى حد المعاناة. "لذا كنت بعد كل حزن أشعر أني لم أعد أنا، لم يبق مني إلا القليل، كنت أرى الدرب تبتر مني أكثر مما تبقي لي، وما عاد جسدي إلا بعضه" (ص52) . توصيف رائع لإنسان يعاني من واقع أصبح سجينه! وعندما كان يكتب ليفرغ حزنه ومعاناته ومشكلاته، فشلت الكتابة في مداواة جراح نفسه العميقة: "أكتب لألتئم، ولا يحصل" (ص54). وهذا الحزن رافقه في تنقلاته من لبنان إلى العراق والأردن وقبرص والسعودية، وها هو يختصر تجاربه معه: "أتقنت في غربتي تربية الحزن، وأقمت له احتفاليات أرهقتني".(ص 138). وعن ألم الغربة أيضاً، يقول: كنت أسير في شوارع نيقوسيا (قبرص)، كما لو أني أمشي على جسدي، أجر خلفي ذاكرتي وحقيبة السفر، وروائح الأماكن والأحبة الذين غادرتهم. (153). لكن هناك في قبرص حدث له ما لم يتوقعه: "كانت بائعة هوى تلك التي قادتني إلى الله" (ص 156).

ويظن القارئ أن الرواية وصف لحياة الكاتب الشخصية، لكنها تعكس في معظمها تجارب كثيرين من جيله جراء اكتوائهم بممارسات الحرب ونتائجها المدمرة للانسان قبل البنيان، مع الأخذ بالاعتبار اختلاف التجارب من شخص لآخر.

كما أعطى الوجود السوري في لبنان مساحة في كتابه، إذ تعرض للسجن والتعذيب عندما خيروه بين تهمتين: بعثي عراقي أو عميل إسرائيلي. وهناك في تلك الزنزانة الضيقة والرطبة والمظلمة بدأ يفكر بشيء آخر، وصلى وتأمل وحدث معه ما لم يكن في الحسبان عندما راح يصلي ويفكر في آلام يسوع: "انفجرت بالبكاء، رفعت كفي عالياً، ومددت يدي إلى السماء. شعرت أني أمسك بشيء ما تدلى من السماء... فقدت علاقتي بالمكان وكأني قد انفصلت عن جسدي".(ص151). وهنا يدخل العنصر الديني - الروحاني في صلب حياته والرواية. وربما كانت علاقته بالدين وتطور قناعاته سبباً في وضعه هذا الكتاب. فعن حصة التعليم الديني، بدأ كتلميذ يطرح تساؤلات عن الآخر، وكفّر البعض. ولاحقاً أصبح البحث عن الله قضيته الروحية كشاب، والتي ستغير حياته كلياً.

لكن السؤال: ما علاقة عنايا ببيت الكاتب الطيني الذي نشأ فيه؟

لقد هرب من البقاع إلى جونية للسفر إلى قبرص، ولما لم تكن هناك رحلة يومها، بحث عن صديق قديم درس وإياه في العراق من قرية قرب عنايا، وأمضى عنده ليلة زادت في التأثير في حياته الدينية. فيقول: "لم تكن الطريق إلى عنايا تمر عبر الجغرافيا ... بل لم تكن عنايا مجرد تراب يطل على السماء... كانت عنايا تبعد عني قرابة الألف وأربعمئة سنة... وأظل أسأل نفسي : ولمَ عنايا، وأين هي عنايا هذه؟ وكنت كلما طرحت سؤالاً أتهم أني مشرك، وأني في طريقي إلى الزندقة والإلحاد" (ص 112). فعنايا بما تمثله من معطى ديني وروحي تجسدَ في تنسك مار شربل وسموه عن ماديات الحياة التي يتقاتل الناس من أجلها، فهناك وجد ملجأه الروحي حيث لا مكان سوى للصلاة والتأمل وطهارة النفس. "وقفت أمام محبسة الأب شربل في عنايا. مررت بكفي فوق بابها. أغمضت عيني، وأطلقت روحي في نقاء المكان"( ص149).

وفي أخر صفحتين من الكتاب يصف ما عاشه في زيارته هذه، وكيف أنه ركع تحت الشجرة وصلى صلاته. ويمهد لذلك بالقول: "كان لا بد لأصل إلى عنايا أن أخلع عني الكثير من الأثقال التي حمّلتنيها طفولتي وبيئتي طوال سنوات" (ص158). ويجمع بين طقوس المسيحية والإسلام في طريقه إلى هناك: "في الطريق إليها (عنايا) أديت كل صلاتي وصيامي وحجي وزكاتي ابتسامات وعطايا ومحبة وصفحاً وغفراناً" (ص158). ويتابع: "وفي الطريق إليها اكتشفت أن أحجار الكنائس كأحجار المساجد والمعابد" (ص159). فلمَ الخلاف؟ إذ يحاول أن يجمع الجميع في الله في مقاربته الروحانية - العقلية. كما أن الله ذاته في الأديان كافة: "هناك في عنايا اكتشفت أن الله فيها هو الله الذي عرفته في بيت الطين" (ص159).


MISS 3