طوني فرنسيس

كي يقف القضاء على رجليْه

25 شباط 2023

02 : 00

بدأت معالم السلطة القضائية المستقلة بالظهور للمرة الأولى في لبنان خلال عهد المتصرفية. وتمكن قضاة تلك المرحلة من بتّ قضايا شائكة بما فيها أحقية عضو مجلس إدارة الجبل بالمنصب مقابل مرشح آخر قد يكون مدعوماً من المتصرّف نفسه. نمت سلطة القضاء وقويت شوكتها في ظل نظام سياسي سقفه ثلاثة: السلطان المرجع الرسمي الأخير، والمتصرف المحكوم بولاية محددة السنوات، ودول الوصاية الأوروبية التي لها حق الفيتو على المتصرف، قبولاً بشخصه في التعيين ورقابة عليه خلال ممارسته مهامه.

بين تلك الضوابط السياسية أمكن لقضاة ذلك الزمان ممارسة أدوار بارزة، من الحكم بقضايا بسيطة وصولاً إلى البت بمسائل أكثر تعقيداً، وفي مجلدات يوسف إبراهيم يزبك «أوراق لبنانية» المنشورة في خمسينات القرن الماضي، وثائق مثيرة عن قضاة واجهوا بصلابة فانتزعوا حقوقاً وصانوا أخرى.

وفّر استقرار السلطة السياسية الامكانية لتطوّر سلطة القانون، وهذا الاستقرار هو شرط لازم كما تشير التجارب، وفي عهد الاستقلال، لم يعد الاستقرار وحده الشرط الكافي. كانت الجمهورية البرلمانية تحتاج أيضاً إلى سلطتها الثالثة المستقلة، القضاء، كي تكتمل صورتها كسلطة استقلال لشعب استحق استقلاله. لكن السلطة القضائية لن تصمد أمام تدخل السلطة السياسية، فكيف اذا صارت تلك السلطة سُلُطات كما هو حاصل اليوم؟ يروي فؤاد بطرس أنّ فؤاد شهاب اختاره للعمل معه بعدما اكتشف فيه إبّان قيادته للجيش رجلاً قانونياً لا يرضخ لإغراء وترهيب أو حتى مجاملة. وفي زمن فؤاد شهاب بدأت عملية بناء الدولة بمؤسساتها الحديثة.

انتهى القضاء بانتهاء معنى النظام الديمقراطي البرلماني. الحروب الأهلية قضمته، ثم دجّنته سلطة الوصاية السورية فكانت «العضّومية» عنواناً لمرحلة ستفتتح مرحلةً أخطر. فعندما توغلت هيمنة تحالف الميليشيا والفساد انعدم وجود الدولة كمؤسسات دستورية منتظمة. صار الدستور وجهة نظر يفرضها الأقوى والقاضي النزيه عملة نادرة. دبّ الخراب نزولاً من فوق. لا رئيس للدولة الا بمشيئة القادر، ولا حكومة الاّ برغبته، ولا مجلس نواب الّا برئيسه الأبدي، وهؤلاء جميعاً سيتقاسمون كل شيء، من القضاء إلى المنافع إلى تغطية الارتكابات، ولن يكون للقاضي المتبقي غير دور شاهد الزور أو الجدران الأربعة.

تنهار سلطة القضاء بانهيار السلطة الدستورية وتفككها، وهي اذا كان فيها بقايا حياة فلأنّ مجتمعاً بأكمله يعي المخاطر ويرفض وضعاً غريباً ومفتعلاً يُفرض عليه. يرفض اللبنانيون، أو غالبيتهم «قبع» القاضي طارق بيطار على يد ميليشيا مسلحة، بقدر ما يرفضون قبع قاضٍ آخر على يد سلطة حكومية تخاطر بتحويل الأمن الشرعي إلى ميليشيا. في الحالة الأولى كان الهدف تغطية جريمة المرفأ، وفي الثانية تغطية جريمة المصارف... في التقاء منهجي عجيب يبرر للمرة الالف التوصيف القائل بتحالف الميليشيا والفساد.

سيبقى من يقارع في القضاء كما في السياسة والعمل العام، وسيبقى العلاج الوحيد في استعادة الدولة ومؤسساتها الدستورية، والمدخل الى كل ذلك الآن هو الانتخاب العاجل لرئيس الدولة، وعودة الانتظام إلى العمل الحكومي والاداري والقضائي، بدلاً من الإغراق في عملية التناتش الفئوي الميليشياوي، في انتظار المزيد من الأزمات والخراب.


MISS 3