توفيق شمبور

القدرة الشرائية... كيف وأين نجدها بعد فقدانها؟

27 شباط 2023

02 : 00

كونراد أدينهاور

حدّد وزير الخارجية الاميركي الاسبق السيد Henry Kissinger اسماء ستة لها الفضل باعادة بناء عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية، أولهم المستشار الالماني Konrad Adenauer.

من مآثر الاخير ادراجه استقلالية المصرف المركزي وانشاء محكمة دستورية رائدة على رأس اهتماماته، عندما دعي لترؤس الهيئة التي عهد اليها صياغة مسودة دستور المانيا الحديثة، فكان له ما اراد. وتمّ انشاء الـ Bundesbank ومحكمة Karlsruhe وفقاً لتوجهاته. فكان اداؤهما مفخرة لالمانيا ولاوروبا لاحقاً وللبشرية جمعاء في عصرها الراهن. بالنسبة لاستقلالية المصرف المركزي، كانت حجة المستشار Adenauer ان الاستقلالية تحمي الـ Bundesbank من الخضوع لضغوطات السلطة لتمويل اية مغامرة عسكرية جديدة طائشة كالتي قام بها الزعيم النازي، او اية انفاقات تضخمية غير مسؤولة.

بالنسبة للمحكمة الدستورية، كانت حجته انها الاداة الفاعلة لحماية المواطن من اي تعرض رسمي او خاص لحقوقه الدستورية ولتوازن السلطات فلا تفتئت احداها على صلاحيات الاخرى، وايضاً للتفسير القويم للدستور، كما وللسهر على ان تكون نشأة الاحزاب وممارستها للعمل السياسي متوافقتين مع الدستور.

موضوعان أساسيان غائبان عن الاتفاق مع الصندوق

للأسف موضوع ترسيخ استقلالية فضلى لمصرف لبنان وتعديل صلاحيات المجلس الدستوري لم ترد في اية مناقشات او برامج عمل العاملين في الشأن السياسي والعام اجمالاً للخروج من الازمة الكارثة الراهنة توطئة لاعادة بناء مستقبل واعد على قواعد عصرية. ايضاً لم يتطرق موظفو صندوق النقد الدولي الى موضوع ضرورة ترسيخ استقلالية مصرف لبنان في اتفاقيتهم مع نظرائهم في الدولة اللبنانية، خصوصاً بعد ثبات خضوع ادارة الاخير لاملاءات الحكومة بالتمويل من دون اي اعتراض طوال ثلاثة عقود. وكان هذا الخضوع من الاسباب الرئيسية للأزمة الكارثة التي يمر بها لبنان. علماً ان ادارة الصندوق تمسكت بهكذا شرط: ضرورة التجهز باستقلالية صارمة عند النظر بمساعدتها لكوريا الجنوبية اثناء الازمة الآسيوية بالرغم من عدم تسجيل اي انحراف في اداء مصرفها المركزي.

مجلسنا الدستوري لحماية حقوق السياسيين لا المواطنين

بالنسبة للمجلس الدستوري، الانحراف واضح منذ البداية. فقد تم تأسيسه على فكرة حماية حقوق السياسيين لا المواطنين. اذ أبعد عن النظر بمراجعات الافراد الخاصة بحماية حقوقهم الاساسية والدستورية ولو عن طريق الدفع لا الادعاء، على عكس ما تفعله المحاكم الدستورية في البلاد المتقدمة. وحصرت صلاحياته بقبول مراجعات السياسيين بشأن دستورية اي قانون (او نص له قوة القانون) يصدر خلال مهلة 15 يوماً تلي نشره في الجريدة الرسمية، والا بات القانون نافذاً بالرغم من عدم دستوريته. كما بالمراجعات الخاصة بصحة الانتخابات النيابية ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب. وقد تم تحديد اصحاب الحق بالمراجعة برئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء و10 نواب على الاقل، وبرؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً بما يتعلق حصراً بالاحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني. الاطار المحكي عنه جد محدود وفي موقع جد متخلف اذا ما قيس الى ما هو عليه الامر في مجالس ومحاكم دستورية رائدة (كتلك القائمة في المانيا واسبانيا والولايات المتحدة الاميركية وغيرها)، فهذه الاخيرة تغتنم فرصة اثارة اية مراجعة امامها لتقبض على الموضوع، وتتوسع في اثارة حيثيات اساسية او فرعية ذات صلة تصنف لاحقاً من قبيل الاجتهادات او التوجيهات التي يتعين على المشرعين التشريع على هديها، او يمكن للمعترضين امامها الاستناد اليها في دعم مطالبهم بهدف اعلان عدم دستورية التشريعات المخالفة لهذه الاجتهادات والتوجيهات.

فمحكمة Karlsruhe تبدأ مثلاً عند تناولها لأي قانون يطعن به امامها في البحث بموضوع اولي يمكن تصنيفه من باب التعلق بالشكل، وهو ما اذا كانت صفة القانون متوافرة بالنص المطعون فيه قبل البحث بدستوريته. وذلك وفق معايير متعددة وضعتها لذلك من بينها: هل يحدد النص القانوني المطعون فيه الهدف الذي يصبو الى تحقيقه بوضوح؟ وهل الخيار المعتمد في النص هو الامثل لتحقيق الهدف المرتجى؟ او هل اثبت التطبيق العملي لاحقاً تحقيق الهدف المبتغى وغيره... فاذا كان الجواب بالنفي صدر قرار المحكمة بعدم دستورية النص القانوني المطعون فيه، ولو من دون التعرض الى قضية مواءمته أم لا مع نص دستوري محدد.

الفرصة مناسبة لإصدار قانون دستوري عصري

إن الفرصة مناسبة، اذا اردنا حقاً اختصار الطريق في استعادة ثقة العالم المالية بنا وبقطاعنا المصرفي وتأمين حماية فاعلة للبنانيين من كارثة مالية مشابهة للراهنة مستقبلاً، ان نعمد بأسرع وقت الى استصدار قانون دستوري يكرس (أ) استقلالية مصرف لبنان دستورياً كما هو الامر في سويسرا ( المادة 99 من الدستور) والمانيا و(ب) حق الافراد بمراجعة المجلس الدستوري عند الافتئات على حقوقهم الدستورية وضد انحرافات السلطات الدستورية ومنها مصرف لبنان (بعد اعلان استقلاليته دستورياً)، لرفع الاضرار الموصوفة التي لحقت بحقوقهم الدستورية بسبب هذه الانحرافات. ويتعين ادخال تعديل على الاصول المعتمدة في تعيين اعضاء المجلس الدستوري تكفل اختيار حقوقيين دستوريين اكفاء ذوو خبرة طويلة في قضايا النقد والمصارف المركزية والمال.

ما علاقة القدرة الشرائية بكل ذلك؟

هذه هي البداية القويمة لاستعادة القوة الشرائية التي فقدناها! لا بل انها، اي القوة الشرائية، ما كانت لتفقد اصلاً لو كان لبنان مجهزاً بالتعديلات المحكي عنها لانها كانت ستقف سداً منيعاً امام انحرافات الخزينة والمصارف و... مصرف لبنان!

وهنا تجدر قراءة خلاصة موجزة عن قرار المحكمة الدستورية الالمانية في Karsruhe الصادر مؤخراً في 5 حزيران 2020 تطالب فيه المصرف المركزي الاوروبي بتبرير برنامجه بخصوص شرائه اصدارات القطاع العام في السوق الثانوية في آذار 2015، والغاية المتوخاة منه لمراقبة هل تم تحقيق هذه الغاية فعلاً على صعيد الواقع؟

وكانت المحكمة سبق لها ان طالبت المصرف المركزي الاوروبي بتقديم الدليل بعدم وجود التفاف على القانون الذي يمنع الاخير من الاكتتاب بالسندات العامة عند طرحها في السوق الاولية، من خلال العمل على الدفع لاصدارات عامة تكتتب بها مؤسسات القطاع الخاص على الاخص مؤسساته المالية، توطئة لاعادة شرائها من قبل البنك الاوروبي لاحقاً.

تعاميم باطلة... إنهارت الليرة ونضبت السيولة

الشيء الأكيد ان تعاميم مصرف لبنان الاخيرة الصادرة بعد اندلاع الازمة الكارثة بالاستناد الى المادة 70 من قانون النقد والتسليف (التي تطالب مصرف لبنان بالحفاظ على النقد وسلامة القطاع المصرفي) والمادة 174 من القانون المذكور (التي تتحدث عن حسن علاقة المصارف بمودعيها و... عن تعزيز سيولة المصارف)، وعلى الاخص التعميمين 151 و158 كانا سيعتبران بحكم الباطلين بالشكل من الساعات الاولى لتقديم الطعن بهما امام محكمة karlsruhe، من دون اي بحث في المضمون على اساس عدم تحقق الغاية منهما ويقتضي بناء عليه التفكير بتعاميم اخرى تحقق المرتجى.

فالليرة اللبنانية لم يتم المحافظة عليها حسب المادة 70 وفقدت من بعد اول صدور للتعميمين اكثر من 90% من قيمتها. ووصلت العلاقة بين المودعين والمصارف خلافاً للمادة 174 الى مستوى تاريخي من الخصام والعداء. كذلك سيولة المصارف، على الاخص بالعملات الاجنبية، وصلت الى مستويات متدنية تاريخية لا بل نضبت!

(*) استاذ محاضر في قوانين النقد والبنوك المركزية


MISS 3