شربل داغر

بين طه حسين ومحمد أركون

27 شباط 2023

02 : 00

أكثر من مفاجأة في الكتاب الأخير للمفكر الجزائري الراحل محمد أركون: "الجانب الإصلاحي في أعمال طه حسين" (2022).

المفاجآت سعيدة. أولاها أن الكتاب صدر في طبعتين متزامنتين: بالفرنسية (لغة الأصل)، وبالعربية (بعد ترجمته إلى العربية).

ثانية المفاجآت أن الكتابين صدرا في تعاون ثنائي بين دار جزائرية وأخرى مغربية، برعاية السيدة ثريا يعقوبي أركون. وهو تعاونٌ مناسب، نادر، ما يستحق الإشارة إليه.

أما أعلى المفاجآت فهي ما يشتمل عليه الكتاب، إذ هو رسالة التخرج، في العام الجامعي

1953-1954، عندما أنهى أركون تحصيل إجازته في اللغة العربية، وهو في الخامسة والعشرين من عمره.

الرسالة مدهشة في ما تجمعه وتقوم عليه: أن ينصرف أركون إلى فحص فكر طه حسين "الإصلاحي"، واجداً فيه، على الأرجح، العلامة والمسار لما كان يطلب الاندراج فيه منذ شبابه.

أركون، مثل سابقه الشهير، معني بالإصلاح الإسلامي في تفاعل وتباين مع الفكر الاستشراقي الفرنسي.

هذا ما يباشره، في البحث، بقوة واقتدار حيث إنه لا يتعمق في مدونة بصير التنوير العربي وحسب، بل يستخلص سياق الفكر الإصلاحي في مرحلته الأولى (مع جمال الدين الافغاني-محمد عبده): استلهام "السلف الصلح"، ثم في مرحلته الثانية (مع طه حسين نفسه).

يتوقف أركون ليفصل في وجوه فكر طه حسين في الثقافة والأدب والمجتمع والسياسة وغيرها، ما يعد ترتيباً وعرضاً موفقين.

لا يقوى القارئ- مثلي- على إغفال لحظة القراءة نفسها، وأنه يقرأ لأركون عمله البحثي الأول.

لا أريد من هذا القول إقامة تشابه بين مسار المفكر المصري وبين مسار المفكر الجزائري،

إلا أن الأكيد هو أن ما قام به أركون في إنزال فكر طه حسين في مسار الفكر الإصلاحي العربي، كان أشبه بالعتبة الواعية لما سيعمل عليه أركون ويندرج فيه بعد وقت، وطوال حياته.

يؤكد أركون، في كتابه، أن انتهاج طريق الإصلاح صعب للغاية، بل أصعب من الموقف "الثوري"، أو من الموقف "التقليدي". ذلك أن الإصلاح يستدعي الفحص والتدقيق، في لحظة صعبة بين الانتساب الواعي إلى ثقافة مجتمعه، من جهة، وبين عدم الانغلاق عما يعرضه الفكر الأوروبي من أفق معرفي جديد، من جهة ثانية.

المؤلم، إثر قراءة الكتاب، وإنزاله في لحظة القراءة الحالية، هو أن طه حسين كان يخطط ويرسم وفقاً لمستقبل، فيما عايش أركون (ونحن معه) التراجع عن وعود الإصلاح، ووقوع مجتمعات عربية في حروب أهلية، معلنة أو مستورة.

ينهي أركون كتابه بالقول:

"إن ذلك يتطلب أن يكون المسلم مفكراً نزيهاً يَقبل، ببرودة أعصاب والتزام مطلق، بأن يقابل قيمه التقليدية بالمقتضيات الصريحة لحياة الإنسان الحديث، مع كل ما تفرضه من توجهات قاهرة، ولَمّا يدرس التاريخ، فليس ليسخره لخدمة طرح مسبق ما، ولكن ليفهم الاتجاه الذي تتخذه مسيرة البشرية، فلا يجب أن يعشق سوى الحقيقة، وهي تفرض نفسها على البشر برمتهم".

بهذا الوعي، بهذا التصميم، رسمَ أركون الشاب أفقاً لمجهوداته القادمة منذ كتابه الأول: مُوَجِّهُ فكرٍ منذ ضربته الأولى.


MISS 3