جان الفغالي

"بلياردو" بري... وكرة اللواء

2 آذار 2023

02 : 00

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وفي إحدى مناسبات الأعياد، رنَّ هاتف اللواء جميل السيد في مكتبه في الأمن العام، وكان على الخط منزله في بيروت، يُبلغه أنّ هناك سيارة من رئاسة مجلس النواب تحمِل هديةً من الرئيس نبيه بري إلى اللواء السيد. إستغرب اللواء وطلب التدقيق في البطاقة التي على الهدية، فأكدوا له أنّها له وأنّها من عين التينة. بسرعة بديهة طلب أن يُبلَّغ حامل الهدية أن يعيدها إلى عين التينة، وحمّله الرسالة الشفوية التالية: ربما وصلت الهدية بالغلط وأنّ عنوانها الحقيقي هو النائب باسم السبع (الشخصية الشيعية المحسوبة على الرئيس الشهيد رفيق الحريري).

هذه الرواية الحقيقية كانت تعكس سوء العلاقة بين الرئيس نبيه بري وبين اللواء جميل السيد، خصوصاً عندما عُيِّن مديراً عاماً للأمن العام، منذ ذلك التاريخ والبرودة بين بري والسيّد ازدادت جليداً، خصوصاً أنّ اللواء السيد، في مطلع عهد الرئيس أميل لحود، تولى ملف «التطهير» الإداري الذي لحق ببعض أنصار الرئيس بري، وهو كان يقف وراء تعيينهم، امتعض بري لكنّ امتعاضه لم يكن يلقى آذاناً مصغية لدى الرئيس لحود، فازداد حنق رئيس المجلس على اللواء السيد، فالرئيس بري لا يحتمل شراكة في القرار الإداري المتعلق بالكوتا الشيعية داخل الادارة اللبنانية.

رئيس المجلس كان يعرف «حظوة» اللواء السيد في عهد الرئيس لحود، وحتى في عهد الرئيس الهراوي، حاول كثيراً أن «يُعَثِّر» جموحَه، هذا الجموح الذي كان السيد يعتبره محاولة يومية لمنع تمدد الفساد في الإدارة. السيِّد أتعب الأستاذ، خرج من الأمن العام فتنفس الأستاذ الصعداء، لكنه عاد إلى ميدان بري، ساحة النجمة. تعلّم الرئيس بري من «التجربة المريرة» مع اللواء السيِّد، فسعى لعدم تكرار التجربة مع اللواء عباس ابراهيم، الذي يتفوّق على اللواء السيد بالنقاط التالية:

أنّه ابن الجنوب، مسقط رأس بري ومعقله. أنّه تدرّج في كل المواقع في المؤسسة العسكرية، من المواقع القتالية الى المواقع الأمنية والاستخباراتية. كانت له علاقة متقدمة جداً مع عاصمة القرار واشنطن.

لهذه الأسباب، ولغيرها، توجّس الرئيس بري منه بمقدار ما كان يتوجس من اللواء السيد الذي لم يتوانَ يوماً عن مهاجمة الرئيس بري حين وصل أنصاره إلى محيط منزل السيد في الجناح، فخاطبه قائلًا: «ضب زعرانك».

«قضية» المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم تستحق أن تُدرَس وتُدرَّس كمادة أساسية في لعبة السياسة اللبنانية، فمهما يكون الشخص، أي شخص، قوياً، فإنّه في لحظةٍ معيّنة يُصبح رهينة الحسابات الحزبية والمذهبية وربما الاقليمية والدولية. كيف تحوّل «الرجل القوي» إلى شخصية تزور بكركي وعين التينة والسرايا وسوريا. لم يتسرّع ليقال إنّه «حرق المراحل»، ولم يختلف مع احد ليُقال إنه حُسِب على فلان أو فلان، وثِق به الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى درجة أنه أصبح في مرحلةٍ من المراحل مسؤولاً عن أمنه. ووثق به «حزب الله» إلى درجة أنّه ائتمنه على أدق الملفات، فما عدا مما بدا ليصبح من السهل التخلي عنه؟ هل نقول: «فتِّش عن الرئيس بري فقط؟»

يُعرَف أنه في لبنان، القانون هو الأكثر مطواعية، فهو، كما يقال في بريطانيا: «يستطيع القانون أن يفعل كل شيء الا تحويل الرجل إلى امرأة». هكذا في لبنان حيث القانون كقطعة قماش «يخيِّطونها» كما يريدون، والقانوني الباهر هو الذين يكون الأشطر في الحياكة. اللواء عباس ابراهيم لم يجتَزْ الاختبار الأخير، وهو اختبار رئيس مجلس النواب الرئيس نبيه بري الذي لا يتراجع إلا أمام الإمام المغيب موسى الصدر (والويل لمَن يتجرأ ويقول إنّ الإمام الصدر ليس على قيد الحياة). تجاوز الجميع من الرئيسين كامل الأسعد وحسين الحسيني إلى السيد محمد حسين فضل الله الذي كانت علاقته به سيئة، صرّح يوماً فضل الله أنّه «يجب وضع جميع السياسيين في مركب ووضعه في البحر»، فرد عليه الرئيس بري: «ينقصهم أن يكون معهم مرشد» (في دلالة على أنّ فضل الله كان يسمّى»المرشد»).

نجح اللواء ابراهيم في حل أعقد الملفات: من ملف الرهائن إلى ملف راهبات معلولا، الى عسكريي الجيش اللبناني، إلى رهائن أميركيين في إيران، لكن لم ينجح في «فك رهنه» لدى الرئيس بري. عجز «حزب الله» عن فك أغلال بري من يدي اللواء ابراهيم، هي نقطة تُحسَب عليه وليست له. لا أحد يصدِّق أن «الحزب» يعجز عن التمديد للواء ابراهيم لو أراد، لكن يبدو أنه في مكانٍ ما «غير منزعج» من سيناريو الإبعاد الذي تولاه الرئيس بري.

في إحدى قاعات عين التينة، طاولة «بلياردو» حيث الرئيس بري متمكن من هذه اللعبة، فهل علّمته هذه اللعبة كيف يُسقِط كُرتيْن أو «لواءيْن» بضربة عصا واحدة؟ اللواء السيد عاد نائباً، اللواء ابراهيم قد يعود وزيراً، وأكثر، فهل تسديدات الأستاذ «البلياردية» موقتة؟ ما هو شبه أكيد أنّ الطائفة الشيعية بدأت تنعتق، ولو تدريجاً، من»الثنائية».