عيسى مخلوف

وَقفَة من باريس

المدينة التي لا تُستَنفَد

13 تموز 2019

13 : 28

view on Eiffel Tower and panorama of Paris in winter afternoon

يكفي أن نجتاز عتبة متحف "القصر الصغير"، لنجد أنفسنا، فجأةً، في القرن التاسع عشر حين كانت باريس عاصمة العالم الثقافيّة، فنتعرّف إلى أحوال المدينة بين 1815 و1848، على المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، من خلال معرض بعنوان "باريس الرومنسيّة". ولعلّ باريس هي المدينة الأكثر رومنسيّة في العالم حتى اليوم، إذا استثنينا المدن التي أمست متاحف مفتوحة وموئلًا للسياح فحسب، كمدينتَي البندقيّة وبْرُوجْ.

مثَّلت باريس، في تلك الحقبة التي مهّدت لها الثورة الفرنسيّة، فسحة من الحرية فيما كانت الحرّيات ملجومة في سائر أنحاء أوروبا، واستقطبت عدداً من الأدباء والفنانين والموسيقيّين الكبار. كاتدرائيّة "نوتردام"، ابنة القرون الوسطى، أعادت الحركة الرومنسيّة اكتشافها وأضاءت على جمالها الخاصّ. لقد أصبحت الكاتدرائية، في ما وراء طابعها الدينيّ، أحد رموز المدينة، خصوصاً من خلال رواية فيكتور هوغو التي تحمل عنوان "نوتردام دو باري". أمّا في الجانب الفنّي فيطالعنا أوجين دولاكروا، أحد أبرز ممثّلي التيّار الرومنسي والاستشراقي في الفنّ، صاحب لوحتَي "الحرّية تقود الشعب" الموجودة في متحف "اللوفر"، و"نساء الجزائر في مخدعهنّ".

باريس القرن التاسع عشر لا تنحصر فقط في النصف الأوّل منه، أي في الفترة التي يغطّيها المعرض، لأنها تتجلّى في حركة ثقافية شاملة واكبت التحوّلات الكبيرة التي رافقت الدخول في العصر الصناعي. فهذا القرن شهد أيضاً ابتكار الصورة الفوتوغرافية وولادة السينما. وثمّة مبدعون كُثر ارتبطت أسماؤهم بالمدينة ومنهم الشاعر شارل بودلير الذي ألّف من وحيها كتابه "سأم باريس"، وكان ممّن حملوا راية الحداثة وأرسوا الأسس الأولى للنقد الأدبي والفنّي في فرنسا. مع هؤلاء، تجاوزت الثقافة المفاهيم الكلاسيكية المتوارثة منذ عصر النهضة الإيطالية والتي ظلّت سائدة قروناً من الزمن.

حتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الوسط التاريخي في باريس يحافظ على المظهر نفسه الذي عرفه في القرون الوسطى. لكن، بدءاً من العام 1852، وبطلب من الإمبراطور نابليون الثالث، بدأ البارون جورج أوجين أُوسْمان بتغيير ملامح المدينة وإعادة صياغتها، من أجل تحديثها وتجميلها: شُقَّت جادّات وطُرقات واسعة. أُنيرت الشوارع وزُيّنت بالأشجار وازداد عدد الحدائق والساحات العامّة والمسارح والملاهي والمقاهي والمكتبات والمحترفات الفنّية، كما شيّد مبنى "الأوبرا" الشهير ومحطّات القطار، ودخلت المدينة في مرحلة جديدة لا تزال آثارها ماثلة حتّى اليوم.

باريس مجموعة تواريخ في تاريخ واحد. عُصارة أجيال من الأحلام والثورات، من الآداب والفنون والعلوم، من نابليون الذي حَلمَ بجعلها روما جديدة إلى الأدباء والفنّانين الذين حوّلوها إلى أسطورة. والمدينة التي جمعت تحت جناحيها الكثير من الشعراء والكتّاب والفنّانين والموسيقيين، ماضياً وحاضراً، لم تمنح أسماء جادَّاتها وساحاتها ومكتباتها للمبدعين الفرنسيين فحسب، بل أيضاً لعدد كبير من الذين لجأوا إليها من العالم أجمع، إمّا لجاذبيّتها ودورها الثقافي، أو هرباً من العنف والانغلاق، أو سعياً وراء العلم والمعرفة. ألم تطلق اسم الشاعر محمود درويش على إحدى ساحاتها المطلّة على نهر "السين" ومتحف "اللوفر"، واسمَي المفكّر محمد أركون والشاعرة أندريه شديد على مكتبتين من مكتباتها العامّة؟ بين اللوحات التذكاريّة المثبتة على جدران أبنيتها، ألا تطالعنا أسماء كثيرة منها جبرائيل الصهيوني (من مواليد إهدن) المعروف بصفته عالماً ولغويّاً ومترجماً (درَّس في "المدرسة الملكيّة" في باريس في القرن السابع عشر)، وجبران خليل جبران الذي عاش فيها بين 1908 و1910؟

هل من حاجة للقول إنّ الإرادة السياسيّة لها دور في نضارة المدينة وحضورها واستمراريّتها، علماً أنّها تواجه اليوم، كغيرها من العواصم الأوروبية، تحدّيات اقتصادية وتكنولوجيّة كبيرة تتمثّل في قوّتين أساسيّتين: الولايات المتحدة الأميركيّة والصين؟ لكنّ باريس تشكّل، من خلال وجهها الثقافي بالتحديد، جزءاً من ذاكرة المثقّفين الجماعيّة – مهما تعدّدت جنسيّاتهم وانتماءاتهم - ومن أحلامهم وتطلّعاتهم. باريس "عصر الأنوار" والحركات الفكرية والمدارس الأدبية والفنية والظواهر المبتكَرة... ولئن كانت تعيش الآن، كما في كلّ مكان، وأكثر من أيّ وقت مضى، تحت وطأة رأس المال وقوانين المردوديّة المادّية، فإنّها لا تزال المدينة المفتوحة على التجريب والأسئلة والسجالات الدائمة. من يقصدها، حتى للمرّة الأوّلى ، يخال نفسه عائداً إليها بعد غياب. إنّها مدينة الكُتب بامتياز، والكُتب أفضل المنافي.


MISS 3