عيسى مخلوف

من جهة الشعر المكتوب بالفرنسيّة

4 آذار 2023

02 : 00

"كيف نحظى بجسد الطفولة وروحها في غرفة هادئة مُضاءة باللصوص!"، هذه العبارة التي كتبها الشاعر اللبناني باللغة الفرنسيّة جورج شحادة قد تشكّل أحد المداخل الأساسية لعالمه الشعريّ ولفلسفته في الحياة. فالشعر، هنا، مسعى دائم إلى "جسد الطفولة وروحها"، الطفولة التي هي مصدر دهشة وآفاق مفتوحة وأسئلة لا تنضب. لكنّ هذا المسعى مُهدّد في وجوده ويُحارَب يومياً. يحاربه نسق اقتصادي سياسي ثقافي محكوم بالمردودية المادية والربح، أي بما يولِّد مزيداً من القهر ويدفع إلى مزيد من الفقر والعنف.

ضُمُور الشعر في العالم اليوم، وتَشوُّش صورته وموقعه في المجتمع، يواكبهما تَراجُع الاهتمام بالفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ومن أسباب ذلك أنّ كلّ ما يتعذّر تحويله إلى سلعة ويخرج عن "منطق" المردوديّة المادّيّة يصبح معرّضاً للتهميش أو حتى للانقراض. إنّ إشاحة النظر عن المعارف وبعض فنون الكتابة تترك أثراً سلبيّاً على علاقتنا بالجماليّات وتفعيل العقل. وهذا ما يضاعف من تَصَحُّر العالم، ثقافيّاً وجماليّاً، ويُبعده عن التساؤلات الجوهريّة وعن الحسّ النقدي، ليبقى فريسة رؤية أُحاديّة باتت تتحكّم في كلّ شيء. لذلك، جاءت هذه الوقفة مع الشعر اليوم - الشعر الذي يستحقّ اسمه - ليس من أجل رثائه، بل للإشارة من جديد إلى أهمّيّته وعظمة حضوره في ثقافات الشعوب عبر العصور.

من قصائد جورج شحاده، هذه القصيدة التي يلوح في أفق كلماتها لبنان، طبيعةً وبشراً: "على جبلٍ/ حيث القُطعان تُكَلِّم البرد/كما كان يفعل الله/ حيث الشمس في مَنابتها/ ثمّة حظائر مليئة بالعذوبة/ للّذي يمشي في سلام روحه/ أحلم بذلك البلد/ هناك حيث القلق من طينة الهواء/ حيث الرُّقاد يسقط في الآبار/ أحلم وأنا هنا/ أمامي جدار من بنفسج وهذه المرأة/ ورُكبَتُها المُنفرجة مَشَقّة لا حَصر لها".

حين جاء الشاعر الفرنسي لْوي أراغون إلى لبنان عشيّة الحرب الأهليّة، استقبله في مطار بيروت الشاعر جورج شحادة ورئيسة مهرجانات بعلبك آنذاك، مي عريضة. في بعلبك، تحوّل نصّ أراغون "مجنون إلسا" إلى احتفاليّة مشهديّة تحكي من خلال الكلمات والموسيقى والرقص حكايتين اثنتين: الأولى، سقوط غرناطة قبل أسابيع قليلة من بداية رحلة كولومبوس إلى القارّة الجديدة، والثانية، حكاية "مجنون ليلى" التي ترد فيها عبارة أراغون الشهيرة: "المرأة مستقبل الرجل". وتنطوي هذه العبارة على إدانة السلوك الذكوري منذ القِدَم والذي كرّسته نصوص وشرائع وأديان، كما تنطوي على إيمان بتغيُّرات كبيرة سيأتي بها المستقبل. يقول أراغون: "المرأة مستقبل الرجل/ إنّها لونُ روحه/ وَشوَشَتُه وضجيجُه/ شتيمةٌ هو من دونها/ هو من دونها نَواة فحسب/ نَواة بلا ثَمَرة/ فمه ينفخ في الريحِ المتوحّشة/ حياتُه مُلكُ الخَراب/ ويدهُ نفسُها تُحطِّمُه".

من جهة أخرى، يأتي شعر غيّوم أبولينير، في قصيدته "جسر ميرابو" التي نُشرت في كتاب عنوانه "كحول"، وأنشدها عدد من المغنّين الفرنسيين المعروفين، ومنهم ليو فيرّي. إنها بحث عن زمن ضائع ونشيد مرفوع للحظة من الحب تَعبر كما مياه النهر المدينة: "تحت جسر ميرابو يجري "السين"/ وحبُّنا/ هل على النهر أن يُذَكّرني/ بذاك الحبّ/ يأتي الفرح دائماً بعد الألم/ يحلّ الليل تدقّ الساعة/ تمضي الأيّام وأبقى/ الأَيدي في الأَيدي لنبقَ وجهًا لوجه/ بينما تحتَ/ جسرِ سواعدنا ينسابُ/ الماءُ الذي أتعبته نظراتٌ تلاحقه أبدًا/ يحلُّ الليل تدقُّ الساعة/ تمضي الأيّامُ وأبقى/ يمضي الحبّ كهذه المياه الجارية/ يمضي الحبّ/ كم الحياة بطيئة/ وكم عنيف هو الأمل/ يحلّ الليل تدقُّ الساعة/ تمضي الأيّامُ وأبقى/ تمضي الأيّام تمضي الأسابيع/ لا الوقت يمرّ/ ولا الحبّ يعود/ تحت جسر ميرابو يجري "السين"/ يحلّ الليل تدقّ الساعة/ تمضي الأيّام وأبقى".

من القرن العشرين إلى القرن التاسع عشر، نسمع صوت فيكتور هوغو في القصيدة التي توجّه بها إلى ابنته ليوبولدين التي ماتت غرقًا في منطقة "النورماندي" في فرنسا، وهي من قصائده الأثيرة: "غدًا، عند الفجر، ساعةَ تَبيَضُّ الحقول،/ سأمضي. أعرفُ أنّكِ في انتظاري./ سأعبر الغابةَ، وأتسلّق الجبال./ ما عدتُ أحتمل البُعد الذي يفصلني عنكِ./ سأمضي وعيناي تحدّقان في أفكاري،/ لن أرى شيئًا حولي، ولن أسمع أيّ صوت./ وحيداً، غريباً، محنيّ الظهر، مكتوف اليدين،/ حزيناً، ونهاري سيكون مثل الليل./ لن أنظر إلى ذهب المساء عند الغروب،/ ولا إلى الأشرعة البعيدة الماضية نحو هارفلور،/ وعندما أصل، سأضع على قبرك/ باقةً من البَهشِيَّة الخضراء والخَلَنج المُزهر".

صوت آخر من تلك الفترة الزمنيّة، هو صوت بول فيرلين الذي ارتبط اسمه باسم الشاعر أرتور رامبو، لكن كانت له نبرته الخاصّة الآتية من مكان آخر مختلف. يقول في قصيدة "جمال المرأة":

"رجالٌ قُساة! والحياة ها هُنا فظيعة وقبيحة!/ آه! ليبقَ، ولو إلى حين على الأقلّ،/ شيءٌ على الجبل،/ بعيداً عن القبلات والقتال،/ شيءٌ من قلبٍ طفوليّ رقيق،/ خيرٌ واحترام! وإلاّ فما الذي سيرافقنا/ وما الذي سيبقى فعلاً عندما يأتي الموت؟".

في محاذاة حديقة "سِيرّْ دُوتُويْ" في باريس، هناك فسحة واسعة تدعى "حديقة الشعراء" تبعثرت في أنحائها، فوق العشب وتحت الأشجار القديمة، لوحاتٌ رخاميّة حُفِرت عليها كلمات وأبيات شعريّة لشعراء من أزمنة مختلفة، وممّا يستوقفني فيها هذه الكلمات للشاعر البلجيكي موريس كاريم: "نعم! أعرف ذلك جيّداً!/ لن آخُذَ معي شيئاً،/ ولا حتّى ظلّ غَيمة./ لكن، ما أجملَها في يدي الآن/ هذه الفَراوِلة البرّيّة!"




ملصق احتفاليّة "مجنون إلسا" لأراغون في مهرجانات بعلبك، صيف 1974


MISS 3